لقد سرني ما طالعته في هذه الصفحة (تاريخ وحضارة) في القسم المخصص لنقد الكتب. لعدد 14809 الموافق يوم الجمعة الثاني عشر من شهر الله المحرم لهذا العام. فقد قرأت مقالة نقدية تحمل عنوان كتاب نشرته قبل مدة «الجريفة. دراسة تاريخية» للأخ الكريم خالد بن عبدالعزيز آل إبراهيم، الذي أبادله الشكر والعرفان والدعاء الصادق من غير نقصان. وقد كان له مجهود طيب في مقالته من حيث جمع المادة وتحليل المعلومات وأخيراً الكتابة، حتى أني ظننت في الوهلة الأولى أن ما قام به جهدا جماعيا وليس فرديا. كما أحمد الله تعالى على تحقيق هذه الدراسة المتواضعة الهدف المرجو منها كما بينت ذلك في مقدمة الكتاب، وهو المساهمة في تقديم تاريخ بلادنا وأرضنا الواسعة المترامية الأطراف لغالبية جيلنا الذي لا يعرف إلا القليل منه، وعلى رأسهم الفقير إلى الله كاتب هذه الأسطر، فلم أكن أعلم عن تاريخ بلدتي إلا الشيء القليل، واتضح لي الكثير بعد الدراسة والتحقيق، ولا يفوتني في هذه العجالة أن أشكر كل من هاتفني أو راسلني لتقديم الشكر والمشورة، وقد أجبتهم بالمثل في حينها. ومثل هذا التواصل وهذه الردود إحدى الثمرات المرجوة من عمل الدراسات. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على زيادة الرصيد المعرفي لأفراد المجتمع بكافة فئاته. ولي بعض الوقفات مع الناقد آل إبراهيم أولاها: أنني لاحظت في مقالته إطلاقه لبعض الكلمات والجمل القطعية مثل قوله: «أخطاء المؤلف - من الأخطاء في كتابه - تهدم الأساس الذي بنى عليه المؤلف - هذا الكلام غير صحيح وفيه مغالطات». ومثل هذه الكلمات لا يلجأ إليها أحد إلا إذا كان يملك دليلاً قطعياً، أما الآراء والإشارات غير الصريحة فينبغي معها استخدام العبارات الاحتمالية لا القطعية. وقد لخص الناقد حديثه على ثلاثة أخطاء وقعت في الكتاب على حد تعبيره. أولاها تتعلق بالفصل الأول (الحالة السياسية). وبما أن الناقد شرع في النقد، ولم يعرض ملخصاً لهذا الفصل لكي يجعل القارئ الغير مطلع على الكتاب على علم بما ينقده؛ فسأعرض فيما يلي ملخصاً لهذا الفصل. كان الفصل الأول يتحدث عن الحالة السياسية للبلدة. وقد خلص البحث إلى أن بلدة الجريفة كانت قائمة في الربع الأول من القرن الثالث الهجري (من عام 200ه إلى عام 225ه) حسب ما ذكره صاحب كتاب بلاد العرب الذي توفي بين العامين السابقين، وكانت تسمى في ذلك الوقت (الجرفة)(1) كما تكرر ذكرها في القرن السابع الهجري عندما ذكرها الجغرافي المشهور ياقوت الحموي بنفس الاسم(2). وفي وقت لاحق أخذت بعض المصادر النجدية تذكر هذه البلدة دون أن تعطي إشارات عن أحوالها، وذلك في معرض حديثها عن عدد من المعارك بين بعض القبائل النجدية، ومن ذلك ما حدث عام 1071ه(3) وعام 1104ه(4). وعند سكوت هذه المصادر لجأت إلى استنطاق الروايات الشفهية وحاولت ربطها بالإشارات التاريخية في عدد من المصادر مثل الكتب والوثائق والآثار والخرائط الحديثة. وخلصت إلى أنه يمكن تقسيم تاريخ هذه البلدة إلى أربع فترات كما يلي: أولاً: فترة استقرار بني عدي الرباب. ثانياً: فترة استقرار بني هلال. ثالثاً: فترة استقرار قبيلة العرينات من سبيع. رابعاً: أمارة آل تويم. ويهمنا في هذا المقال التطرق للفترة الثالثة والرابعة، لأن اعتراض الناقد موجه لهما. فأما عن بداية استقرار العرينات في هذه البلدة فلم أهتدي إلى ذلك حتى الآن، وأما هجرتهم من البلدة فقد رجحت أنها حدثت في أواخر النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري (من عام 1180ه إلى عام 1200ه تقريباً) وعاشوا فيما قبله، وذكرت في حينها أن مثل هذه التقديرات قابلة للنقاش، لعدم وجود تاريخ موثق يثبت ذلك، وكان اعتمادي في هذا الترجيح بناءً على وجود وثيقة بيع بتاريخ عام 1246ه(5) تفيد أن أمير الجريفة في ذلك الوقت محمد بن حسن بن وضاح(6)، الذي كان تأسيس البلدة في فترتها الرابعة على يد والده وجده لأمه ابن جارالله(7). وقد تركز اعتراض الناقد على ترجيحي بأن تأسيس البلدة أو شراءها من قبل حسن بن وضاخ وخاله ابن جارالله كان في بداية القرن الثالث عشر الهجري (1200ه تقريباً). وذكر ما نصه: «وهذا الكلام غير صحيح وفيه مغالطات منها: (أ) أن وجود أقدم وثيقة عثر عليها تخص بلدة الجريفة تعود إلى تاريخ ما قبل 1182ه لأن الذي كتبها توفي عام 1182ه أي أنها كتبت قبل وفاته، وهي فتوى الشيخ السحيمي الآنف الذكر وهي جواب لاستفتاء أحد أحفاد فارس المشرفي (بشأن قطعة أرض الميح) وهي تخص موضوع فارس المشرفي الذي يعود تاريخ وجوده في الجريفة إلى عام 1100ه تقريباً. وقوله في الهوامش: «.... نستنتج من ذلك أن وجود فارس جد آل فارس من المشارفة في الجريفة كان في حدود أواخر القرن الحادي عشر أو بداية الثاني عشر 1100ه تقريباً..» وقوله «.. وعلى ذلك نستنتج أن هذه الوثيقة هي أقدم وثيقة عثر عليها فيما يخص بلدة الجريفة، وهي تبين أن أقدم من سكنها في العصور المتأخرة هو فارس المشرفي التميمي... فإذا كان وجود فارس المشرفي جد آل فارس... في حدود 1100ه تقريباً.. فربما يكون فارس هو المؤسس لهذه البلدة، أو هو مؤسسها فعلاً كما أيد ذلك الدكتور خليفة بن عبدالرحمن المسعود في كتابه...». ومن خلال حديث الناقد اتضح لي أن هناك بعض الغموض أو اللبس الذي كان يعتري حديثه، فأنا أوافق الناقد بأن هذه الوثيقة هي أقدم وثيقة موجودة ذكرت اسم البلدة (مع ملاحظة أن نسخها كان في عام 1314ه، أي أنها في وقت متأخر عن أحداث الوثيقة)، لكنها ليست أقدم ذكر للبلدة، فقد مر سابقاً تردد اسم الجريفة في المصادر النجدية في عام 1071ه وعام 1104ه، وقبل ذلك في المصادر الإسلامية كما بينت سابقاً. وأما قول الناقد بأن الوثيقة تبين أن فارس المشرفي رحمه الله(8) أقدم من سكن الجريفة، فلا أدري على أي أساس أو دليل بنى رأيه هذا، فالوثيقة التي اعتمد عليها لم تذكر ذلك، بل أنها لم تشر إلى سكنى فارس في الجريفة أصلاً، ولا توجد حسب علمي وثيقة أخرى تدل على ذلك. وعلى افتراض صحة استنتاجات الناقد من الوثيقة التي اعتمد عليها، فهي تدعم الرأي الذي ذهبت إليه مسبقاً بأن العرينات هاجروا من الجريفة في أواخر النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري وعاشوا فيما قبله. أي أن فارس - رحمه الله - كان شريكاً في الميح في فترة استقرار العرينات في الجريفة، مع ملاحظة أن شراكته في الميح لا تعني سكناه في الجريفة، ومن المحتمل أن يكون فارس من بلدة أخرى في إقليم الوشم كالحريق أو أشيقر مثلاً، وقد تكون الأخيرة هي موطنه للأسباب التالية: السبب الأول وهو وجود أحفاد فارس في أشيقر لأن خليفة المسعود (الذي اعتمد عليه الناقد في آرائه) يذكر أن ورثة فارس يسكنون في بلدة أشيقر(9) وإذا صح ما ذكره المسعود فهو دليل قاطع على أن فارس المشرفي من بلدة أشيقر في ذلك الوقت، ولا يمنع ذلك من وجود أملاك زراعية له في بلدان أخرى كالجريفة مثلاً. والسبب الآخر وهو يدعم سابقه، أنه عرف عن بعض أهل أشيقر أو غيرها الشراكة أو التملك في بلدة الجريفة وبلدات أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر صالح بن عيسى رحمه الله (توفي عام 1322ه) (والد المؤرخ المشهور) من سكان أشيقر وكانت له شراكة في بعض الأملاك في بلدة الجريفة وبلدة الفرعة وأماكن أخرى، ولم يعرف عنه أنه سكن الجريفة أو الفرعة، بل كان مشهوراً بالسكن في بلدة أشيقر(10) فهل يصح لنا القول بأن صالح ابن عيسى من سكان الجريفة؟ ومن الغريب أن يذهب الناقد إلى أكثر من ذلك عندما ذكر بأن فارس هو مؤسس بلدة الجريفة!، ولا أدري ما هو الدليل الذي بنى عليه سوى الافتراض. ومتى كانت الحقائق تبنى على الافتراض؟ كما قال الناقد: «(ب) أما بخصوص بئر الميح فإن أصلها يعود لفارس المشرفي وذريته من بعده كما تبين ذلك من الفتوى التي كتبها الشيخ السحيمي». وهنا أدعو الناقد إلى إعادة قراءة الوثيقة أو الفتوى المذكورة لأن نص الوثيقة كما بينها الناقد كما يلي: «... قال إن جدي فارس أوصى لنا يا أولاد حسن بما يستحق أبونا لو كان حياً من الميراث وأوصى بغلة قطعة نصيبه من الميح تطعم الضيف في الجريفة...» وبناء عليه فإن فارس - رحمه الله - أوصى لأولاد ابنه حسن المتوفى مثل ما يستحق أبوهم لو كان حياً، كما أوصى: «بغلة نصيبه من الميح تطعم الضيف في الجريفة». أي المردود من نصيبه من الميح يكون وقفاً لله تعالى حسب الوثيقة المذكورة. فعلى أي أساس بنى الناقد رأيه بأن أصل بئر الميح يعود لفارس رحمه الله، بينما هو أحد الشركاء في وصيته. كما أشكل على الناقد قوله في الهامش: «... لأن جدهم جعل لأبيهم قطعة نصيبه من الميراث لو كان حياً ومن الميراث قطعة نصيبه من الميح لو كان حياً وأوصى أن تطعم للضيف في الجريفة...». وهذا كما أسلفت مخالف لوصية فارس التي أشرك فيها أبناء ابنه حسن في الميراث عامة، بينما جعل نصيبه في الميح وقفاً لله تعالى. أما بقية تعليقات الناقد فهي خاصة بالأنساب والأسر ومواضيع أخرى لا علاقة لها بعنوان الكتاب، وهو ما حاولت جاهداً تحاشيه والابتعاد عنه، فالكتاب يتحدث عن تاريخ ببلدة وليس عن تاريخ أسر وحديث عن الأنساب. وفق الله الناقد لما يحبه ويرضاه، وجعل الله الحق ضالته ومبتغاه. والسلام عليكم ورحمة الله. الهوامش: (1) الحسن بن عبدالله الأصفهاني، بلاد العرب، تحقيق حمد الجاسر وصالح العلي، الرياض، دار اليمامة، ط1، 1388ه، ص261. (2) ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار صادر ودار بيروت، 1375ه، ج2، ص128. (3) عبدالله بن محمد البسام، تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق، تحقيق إبراهيم الخالدي، الكويت، شركة المختل، 2000م، ص125. (4) أحمد بن محمد المنقور، تاريخ المنقور، تحقيق عبدالعزيز الخويطر، الرياض، ط1، 1390ه/ 1970م، ص69، محمد بن عمر الفاخري، تاريخ الفاخري، تحقيق عبدالله الشبل، الرياض، 1419ه/ 1999م، ص107. (5) الوثيقة مرفقة بملاحق الكتاب. (6) محمد بن حسن بن وضاخ من بني هاجر، ومن ذريته آل تويم الذين تعاقبوا على إمارة البلدة في فترتها الأخيرة حسب الوثائق المرفقة، ووثائق أخرى لم أر في نشرها فائدة تتعلق بالدراسة لأن الكتاب يتحدث عن تاريخ بلدة وليس عن تاريخ أسر. (7) ابن جارالله من بني تميم، وتم تقدير الفترة من هجرة العرينات مروراً بفترة تأسيس الفترة الرابعة وحتى عام 1246ه بمدة ستين سنة حسب الروايات والوثيقة الموجودة. فإذا طرحنا هذه السنين من العام المذكور خرج لنا عام 1180ه وهو العام الذي قدرته تقريباً بهجرة آل عرينات من بلدة الجريفة. وليعذرني القارئ على هذا الاستطراد لأنه تمهيد أجبرت عليه للوقفة التالية. (8) أستميح الأسر الكريمة المنتسبة إلى فارس المشرفي - رحمه الله - (والتي ترتبط مع أسرتي بروابط النسب والرحم والجوار) بالتطرق إلى جدهم لأن حديث الناقد تمحور حوله. ولم أسمع تعقيبا على ذلك. (9) خليفة المسعود، منطقة الوشم في عهد الدولة السعودية الأولى، دارة الملك عبدالعزيز، 1428ه/ 2007م، ص117. (10) مي بنت عبدالعزيز العيسى، من الأوراق الخاصة للمؤرخ ابن عيسى، مجلة الدارة، العدد الثالث، 1242ه، ص181-197.