بعد مبايعة: خالد مشعل لقائد الثورة الإيرانية، توهم أن هذا هو المعيار الأهم للنصر. فما دام الولي الفقيه راضيا، فلا يهم بعد ذلك من غضب. فالمهم عند القادة الحمساويين أن يبقى الدعم الإيراني السخي متدفقا على تلك الجيوب الخفية!. طبعا، لا يهم كما يتصوّر قادة حماس ما ذا يعني هذا الارتهان إلى دولة تُصنّف كنظام داعم للإرهاب. فالنظر الحمساوي السياسي قصير النظر جدا، لا يرى أبعد من حدود الكف الممدودة بالعطاء. لكن، ما الذي يجعل هؤلاء القادة ينْضمُّون إلى إيران؟. مرة أخرى، كان البحث عن الشرعية عند حماس، هو الذي جعلها تَنْضمُّ إلى إيران؛ كتابع ذليل مغلوب على أمره. وتصورت إيران أنها اصطادت الفريسة الحمساوية بعد أنهكها الطِّراد. كانت حماس بعد إقالتها لا تجد من يعترف بوضعها الانقلابي اللاشرعي. وكانت عازمة على البقاء في كرسي الحكم؛ مهما كان الثمن!. فالسلطة أولا، والسلطة أخيرا. كانت حماس مثل الغريق الذي يتعلق بالهواء. ولم تجد حماس إلا إيران؛ كي تمنحها ولو (وَهْمَ) شرعية. ومن لا يمتلك الحقيقة؛ سيكون بالوهم راضيا. 4 ومن معايير الانتصار الخاصة بحماس، انتصار الإيديولوجيا. فلا يهم حسب رغبة القادة الحمساويين أن تُباد غزة بالكامل؛ ما دام الأتباع الروحيون في العالم الإسلامي سيعتنقون بشكل ما إيديولوجيا حماس. ليُسحق الإنسان؛ ما دام خطاب التقليد والتبليد والعنجهية سينتصر على خيارات العقل؛ وما دامت الحناجر ستكون هي البديل عن السياسة، وعن الوعي بقيمة الإنسان. بعد هذا، وعلى أشلاء الضحايا، من الطبيعي أن يظهر القادة الحمساويون على شاشات الإعلام، وكأنهم القادة الأبطال الفاتحون. سيطرب مشعل وهنية والزهار لإيقاع التصفيق الجماهيري الرخيص، وسيدخلون التاريخ الغوغائي، كما يدخله الأبطال الفاتحون. وبعد هذا، لا شيء يهم. حتى كرسي السلطة (الوهمي) لو ذهب؛ ستبقى العروش لهم منصوبة في قلوب ملايين المؤيدين. هكذا يفكر قادة حماس، وهكذا يوجهون مسار الأحداث، ولهذه الأهداف. ومرّت الأيام!. والآن، ينعم هؤلاء القادة بثمن الهزيمة (عفوا، أقصد ثمن: النصر الإلهي!)، ويقبضون الثمن مباشرا وغير مباشر. إنهم يتفاوضون بدماء الأبرياء وأشلاء الضحايا. وما بين بداية المعركة و(النصر!) هناك مأساة إنسانية. مَن يعيد الضحايا؟ مَن يُضمّد الجراح المستعصية على العلاج؟ مَن يمسح الذكريات الأليمة التي ستبقى راسخة ومحفورة في الأعماق؟. طبعا، لا أحد يستطيع، ولا حتى حماس، ولو بذلت كل أموال الولي الفقيه، بل ولو استعارت عباءته المقدسة؛ كي تحل بها البركات على أرواح القتلى، وعلى قلوب الثكلى، وعلى بقايا أشلاء الجرحى التعساء!. هذه هي المعايير الأربعة الخاصة بحماس، والتي تزعم من خلالها أنها حققت النصر المبين. وبالنظر إليها، نجد أنها معايير لا علاقة لها بغزة، ولا بأهالي غزة، وإنما هي معايير مستمدة من أهداف وطموحات حماس. ما يجب الوعي به، هو أن حماس شيء، وغزة شيء آخر. وبما أنهما كذلك، فقد تُهزَمُ غزة هزيمة ساحقة ماحقة، وتنتصر حماس (طبعا، وفق هذه المعايير الخاصة جدا) على غزة. نعم، وتنتصر حماس على غزة، وليس على إسرائيل، فهذا محال. وبهزيمة حماس لغزة؛ تكتمل مسرحية النصر المبين!. لكن، كيف تنتصر حماس، وتنهزم غزة، وحماس بلا شك جزء من النسيج الأهلي الغزاوي ؟!. كيف ينتصر الجزء، والكل في أتون هزيمة ساحقة؟. هذا ما يردده المدافعون عن حماس. ومرة أخرى، المدافعون عن حماس وليس عن غزة. ومن الواضح منطقيا و واقعيا أن هزيمة الكل، لا تعني هزيمة (ربما التعبير الأدق هنا: خسارة) كل الأجزاء. فمثلا، تاجر الأسلحة المنتمي إلى الفريق المهزوم، هو الرابح، بل هو الرابح بحجم الهزيمة. فكلما خسر الجيش المنتمي إليه؛ كلما ارتفعت قيمة المشتريات للتعويض عن السلاح التالف. ومع هذا، فمكاسب (مكاسب، وليست نصرا) حماس، هي مجرد مكاسب ظرفية، محدودة بحدود المنافع الشخصية للقادة الحمساويين. بمعنى أنها مكاسب قصيرة الأمد، ومحدودة جدا؛ سرعان مما تتلاشى في خضم الهزيمة التي يغرق فيها الفلسطينيون كأمة. ومهما حقق فصيل ما، مكاسب على حساب أمته، فهو في النهاية، سيرجع إلى مربّع الخسارة. مهما ربح أحد ركّاب السفينة، على حساب سلامة السفينة ذاتها؛ فستغرق السفينة بعد أمد بالجميع، وسيصبح الجميع في عِداد الأموات؛ بلا استثناء. وحينئذٍ، لن تنقذ الغريقَ عباءةُ الولي الفقيه، بل ولا عمامته، من الطوفان، بل ربما ستكون العمامة ذاتها قد استقرت في القاع. ومع كل هذا، فهناك حرب. فمن المنتصر، ومن المهزوم ؟. قد ترضى حماس حفظا لماء الوجه، اليدين أيضا! بشعار لا غالب ولا مغلوب. وهذا ليس أكثر من محاولة التفاف على الهزيمة الساحقة، التي كان يمكن بمستوى محدود من التعقل تلافيها. لكن، تبقى الحقيقة الصارخة التي ينطق بها كل شبر من أرض غزة، وهي أن هناك هزيمة، وهناك انتصار. والانتصار والهزيمة هنا، يمكن تقسيمهما على خمسة محاور، هي بالترتيب من النصر إلى قاع الهزيمة على ما يلي: 1 إيران، هي الرابح الأكبر في هذه الحرب. فهي التي حققت من خلالها أكبر قدر من الأرباح، وبدون أية خسائر. وبدهاء إيراني، حاربت إيران بحماس، كما حرب من قبل بالحزب الإيراني في لبنان. مجرد بذل شيء قليل من دولارات العوائد النفطية، يكفل لإيران خوض حرب من على بُعد أكثر من ألف ميل من حدودها المحصنة بدماء اللبنانيين والفلسطينيين الذين يحاربون نيابة عنها من على هذه المسافة الطويلة. يحمون إيران بدمائهم، ويضمنون بهذا وضع كثير من الأوراق التفاوضية في يدها، وهم يتصوّرون في اتجاه معاكس لحقائق الواقع أن إيران هي التي تدافع عنهم، وتضع مصيرها رهن مصيرهم البائس. إيران تقاتل بكَ، ولا تقاتل لكَ. وهذا ما لا يفهمه التابعون في لبنان ولا في غزة المنكوبة. إيران لم تخسر، حتى على مستوى الرواج الإيديولوجي، بل هي رابحة في هذا المجال أيضا. فمغفلو العرب، أصبحوا يصرحون بإعجابهم بالدور الإيراني. وحتى في العواصم التي يكاد ينعدم فيها دور الدعاية الإيرانية المباشرة، يرفع البسطاء والسذج صور الزعامات الإيرانية، سواء الزعامات التي في طهران، أو لبنان أو في غزة. وبهذا، أصبحت إيران الفارسية المتعصبة، هي البطل القومي للعرب الباحثين عن زمن الأبطال والزعماء. 2 إسرائيل هي الرابح الثاني. وانتصارها في غزة يأتي يعد انتصار إيران، أو على نحو أدق أرباحها بعد أرباح إيران. فهي عكس إيران خاضت الحرب بأبنائها وعتادها، وعلى تخوم حدودها. أي أنها قدّمت كثيرا من الثمن المادي والمعنوي؛ كي تحصل على هذا النصر. وربما كان ما خسرته معنويا، هو الأكبر في قائمة الخسائر. لقد ظهرت للعالم في صورة الغازي الغاشم الذي لا يبالي بمأساة الإنسان، فضلا عن حقوقه. وبما أن إسرائيل تعتمد في مؤازرة العالم الغربي لها على كونها البلد الديمقراطي المتحضر والإنساني، فهي في هذه الحرب قد قامرت بهذه الصورة الإيجابية لها في الوعي العام الغربي. فأصبحت انتهاكاتها محل استنكار عام. ولا شك أنها بهذا تسحب من رأس مالها الرمزي، الذي يصعب تعويضه في أمد قصير. وإسرائيل تعي أن خسارتها ستكون فادحة؛ فيما لو حدث تحوّل جذري في الوعي العام الغربي تجاهها. في الخسارة التي واجهتها إسرائيل مستوى المعنى، كسبت إيران. وهذا ربما يكون الفارق الأكبر بين مكاسب الجرد النهائي في حسابات الأرباح والخسائر، بالنسبة للمنتصرين. وهذان الجناحان المنتصران، هما اللذان يترشحان؛ ليصبحا الفاعلين الأساسيين في الشرق الأوسط. وبعدما حققا هذا المستوى من النصر، لن يسمحا بظهور قوى منافسة على الساحة. وربما كان هذا ما أزعج اللاعب التركي؛ فدخل على الخط، ولكن بعد فوات الأوان. 3 حماس. وأكرر هنا: حماس، وليست غزة. وتأتي حماس بعد إيران وإسرائيل. لكنها بالحسابات البعيدة المدى تدخل في خانة الخاسرين. فحماس مجرد مقاتل بالوكالة عن إيران. وكل ما تقدمه من دماء، حتى ولو من دماء كوادرها المخلصين لها، هي دماء تُصرف في البنوك الإيرانية، ولا ينال حماس إلا حفنة من المال. 4 العرب / الفلسطينيون. وهؤلاء هم الخاسرون الأفدح خسارة، بعد تلاعب إيران عن طريق حماس بقضيتهم. فقد تزعزع التضامن العربي، وانفجر الداخل الفلسطيني، وخسر هؤلاء وهؤلاء كل ما حققوه من أرباح سياسية على مدى سنوات. والآن، وبسبب النزق الحمساوي، تكاد القضية تبدأ من نقطة: الصفر، بل ربما مما دون الصفر. فالاضطراب في الصف العربي من جهة، وفي الصف الفلسطيني، من جهة أخرى، أدى إلى خسائر على مستوى الواقع، ومن ثَم، على مستوى الفاعلية السياسية. وهي خسائر كبيرة، تتحول إلى أرباح في رصيد الرابحين: إيران وإسرائيل. 5 غزة. وللأسف، فغزة هي بؤرة الهزيمة. وهي الخاسر الأكبر في هذه المعركة. الدماء دماؤها، والأشلاء أشلاؤها، الدمار الهائل، هو ركام منازلها ومؤسساتها العامة. فرغم كل ما قيل ويقال عند الدعم العربي والدولي لغزة، فلا شيء يمكن أن يعوّض عن المأساة التي صنعتها حماس بالشراكة مع إسرائيل على أرض غزة. قد يتم تخفيف الآلام، ومداواة الجراح، ولكن، تبقى المأساة أكبر من كل ما يقدمه الأساة. إذن، ومن خلال ما سبق، يتضح أن مسلسل الانتصار والهزيمة، يمكن عرضه بالتسلسل الآتي، من النصر إلى الهزيمة: إيران، فإسرائيل، فحماس، فالعرب والفلسطينيون، فغزة. في أقصى اليمين المنتصر: إيران، وفي أقصى اليسار المهزوم: غزة. فإيرانوغزة على طرفي نقيض. وهذا ما يفضح الدعاية الإيرانية، بل والدعم الإيراني. فما تقدمه إيران لحماس وهو كثيرٌ نسبيا هو لإيران في النهاية وليس لغزة. أما غزة؛ فما لها إلا المآتم ومراسيم العزاء!. وبعد كل هذا، تبقى هناك إشكالية كبرى، في علاقة حماس بإيران. طبعا، ليس من جهة طرفي العلاقة: إيران وحماس، وإنما من جهة رؤية الخطاب الديني التقليدي لهذه العلاقة. فلا يخفى أن حماس تقيم علائق عقائدية وحركية مع الخطاب التقليدي وكوادره. وهي علاقة قديمة وراسخة. لكن، أتت مبايعة خالد مشعل لزعيم الثورة الإيرانية كخطوة أربكت الخطاب التقليدي، ووضعته في موقف محرج جدا، ليس على مستوى الحلال والحرام، وإنما على مستوى العقائد، أي على مستوى الكفر والإيمان. ولإيضاح أكبر؛ فإيران في تصور الخطاب التقليدي تتبنى مذهبا دينيا يخرجها من الإسلام. ففي تصور الخطاب التقليدي، يحتوي المذهب على خروقات في أصول الاعتقاد فضلا عما يسمونه (شركيات) تجعل من يعتنقه أو يتبناه محكوم عليه عند التقليدية بالكفر البواح. والإشكالية التقليدية ليست هنا؛ فهذا الحكم بالكفر قديم قِدم التقليدية ذاتها. ولا تستطيع التقليدية تجاوزه؛ لأنه اتصال تاريخي، يمنحها مبرر الوجود والتمايز، فضلا عن كونه من مبادئ الاعتقاد. الإشكالية تكمن في الموقف من حماس؛ في إطار الموقف الصريح من إيران، أي في كيفية الجمع بين متناقضين في سلة واحدة. إذن، الإشكالية تبدأ من الحكم الذي يصدره الخطاب التقليدي على إيران بالكفر البَواح. تبدأ من هنا. لكنها لا تنتهي هنا، وإنما تتمدد إلى حيث حماس، التي أعلن قائدها البيعة لإيران. وهنا، تجد التقليدية نفسها في موقف محرج عقائديا. فحماس في تصنيفها العقائدي سليمة من الشوائب من حيث المبدأ. ولهذا حظيت بالتأييد العريض من رموز الخطاب التقليدي. لكن حماس، هي حماس التي تخطت أصل الأصول العقائدية في الخطاب التقليدي: الولاء والبراء. فحماس لم تُخل بهذا المبدأ فحسب، أي لم توال إيران فحسب، وإنما بايعت إيران. وهنا، تتفجر الإشكالية التي يجري تضميدها في الخفاء. الإشكالية ليست هامشية. وكي نراها بصورة أوضح؛ فإيران التي بايعتها حماس في تصور الخطاب التقليدي كافرة. وموالاة الكافر فضلا عن مبايعته كُفرٌ مخرج من الملة في التنظير التقليدي. وبناء على هذا؛ تصبح حماس كافرة؛ بسبب مولاتها للكفار. ولا يقف الأمر في التفكير التقليدي هنا، بل يأتي الأصل القائل: من لم يُكفّر الكافر فهو كافر. وهو هنا، يصبح على النحو التالي: من لم يكفر حماس فهو كافر !. ولأول مرة، تجد التقليدية نفسها في مواجهة ذاتها. لأول مرة تقف عاجزة عن تطبيق مبادئها. فهي ترى أن حماس ابن شرعي لها، ولكنه في الوقت نفسه قد ارتكب خرقا لأصل الأصول في بُنيتها الاعتقادية. التقليدية في مأزق، إن كفّرت حماس؛ فستكون فجيعة وفضيحة في آن، وإن سكتت، ولم تسمح بتمرير هذا الأصل، فقد تنكّرت لأصل الأصول الذي تُكفّر به مخالفيها. وهذا سيكون له أثر كبير على مستقبل الخطاب التقليدي كافة؛ لأن المبادئ الكبرى، لا يُفترض أنها لا تطبق بالاختيار، ولا بالأهواء، وإنما هي سيف يقع على رقبة البعيد والقريب. هذا مأزق التقليدية كما هو، وليس كما أريده أن يكون. أنا ضد تكفير حماس، كما أنني ضد تكفير إيران. لكن، هذا هو الاتساق المنطقي في السياق العقائدي لخطاب التقليد. وهذا المأزق سيحدث تحوّلا تاريخيا، إن لم يكن على مستوى التنظير، فعلى الأقل، على مستوى التطبيق. ولن تستطيع التقليدية إجراء التطبيق لهذا الأصل؛ بعد هذا السكوت عن الموقف الحمساوي الواضح. إن كل ما سبق، هو محاولة فهم لما يجري على أرض الواقع، كما هو. وهو في عمقه ليس موقفا من حماس أو من غيرها. فأنا أحاول أن أُقدّم فهماً، ولست أُقدّم دعما. هناك فرق بين محاولة الفهم، ومحاولة الفهم. وكثيرون يخلطون؛ فيتعمدون تقديم الدعم الإعلامي؛ بوصفه فهما للواقع. وحينئذٍ، تختلط الأوراق، ويكون قارئ الأحداث مضطرا بحكم الطلب الجماهيري أن يقدّم دعمه لحماس، من خلال فهم مزيف للواقع. تقديم الدعم، ليس هو تقديم الفهم، وهما ليسا بالضرورة تقديم الوهم. ولكن، يبقى الفهم الصائب، وإن لم يكن مقبولا الآن، هو أفضل دعم، بل هو الدعم الحقيقي للتائهين في حلبات الإيديولوجيا وصراع الساسة الأقوياء.