المساعدة هل هي لطف؟ حين فاجأت نوبة السعال المراهق «مايكل» اتخذ له مكاناً بجوار أحد المنازل، ليسعل ويرتاح، كانت هناك امرأة تقوم بتنظيف المكان لم تبال بسعاله، بل طلبت منه رفع قدميه كي لا يغمرها الماء. بينما هناك امرأة أخرى تلحظ المراهق المعلول وتساعده بنوايا إنسانية خالصة. تلك المساعدة لم تكن سوى مجرد احتضان للمراهق ومرافقته لمنزله. هذه المساعدة العابرة تخلق عند ذلك المراهق تعلقاً فادحاً بتلك المرأة «هانا».. هذا التعلق يمنح مايكل حياة أخرى.. تبهجه ويصبح له سره العذب الذي يتباهى به، ويدفعه للتألق بل وإلى النجاح. قال ل «هانا» عندما أخبرته كم هو رائع: كنت أشعر أنني لا أجيد أي شيء. وفي نهايات الفيلم رجل يساعد امرأة سجينة بنوايا الامتنان الإنساني، لكن «هانا» صنفت هذه المساعدة بالمساعدة القاتلة. فهي كانت تنتظر اللهفة العاطفية لا المساعدة الإنسانية.. تلك المعونة المتأخرة قتلت (هانا).. فالرجل الوحيد الذي هو ملاذها بعد الإفراج عنها من السجن قدم لها ليخبرها أنه يهيئ لها منزلا وعملا، وأن هناك مكتبة عامة قريبة من المنزل تستطيع الذهاب لها لتمتع بفتنتها المتأخرة بالقراءة. لم يكن مايكل الزائر العاطفي كان الزائر الذي يقدم مساعدة إنسانية ويرحل. مايكل الولد الجاد: مايكل المراهق الذي وجد أنثى تحتضنه وتمنحه الحب الأمومي، بل وتجعله يكذب لأول مرة ويتأخر عن المنزل. هي التي تجعل الذنب يطارده طوال حياته وتستحيل في ذاكرته الأنثى التي لا تنسى. فهو يزهد في زميلته التي تقترب منه ويفشل في زواجه، ويظل المغمور بالذنب العاطفي وهو يدرك كيف أخفى سر هانا الصغير. لا أحد سواه يدرك فداحة التخلي، لكنه لا يتخلى عن طموحه الوظيفي كمحام ناجح.. قال لابنته: لم أكن منفتحا معك لست منفتحا مع أي شخص. لم يستطع أن يمنح عاطفته القرار، ويكشف السر الذي قد يجعل هانا تنجو من عقوبة السجن مدى الحياة.. لم يستطع أن يفعل تضحية قد تطيح بمستقبله. ظل بتجادل مع ذنبه السري في صمت.. إنه المحب الذي يخطط لكل شيء. عندما كان يتنزه مع هانا أخرج الخريطة ليخطط لرحلتهما على الدراجة. هانا رفضت الفكرة وأرادت أن يتم التنزه بفوضوية.. لذا اختارت أن تدخل الكنيسة ليغمرها البكاء والحنين أثناء إنشاد التراتيل. هو المحب الذي رغم هلاكه العاطفي، إلا أنه الإنسان الجاد البراغماتي.. فعندما كانت في السجن اختار من النبل العاطفي الفعل الأقل، وأخذ يبعث لها أشرطة الكاسيت لتستمع للروايات التي كان يقرؤها ل «هانا» أثناء لقائه معها وهو مراهق. هذا الفعل النبيل ظاهريا ليس موجها لهانا لكنه فعل يتداوى به لذاكرته. فهو عندما يقرأ ويسجل ما يقرأه ويبعثه لهانا. يفعل ذلك من أجل لذته هو وليس من باب التكفير عن الذنب. حين زارها في السجن قالت له (لقد كبرت يا فتى). وعندما راسلته لأول مرة أيضا كانت تخاطبه ب يا فتى. وعندما جمعهما الحب في البدايات كانت تناديه بالفتى أيضاً، لكن هذا النداء تختلف نكهته من مرحلة إلى أخرى.. فهي إن كانت تستعذب هذا النداء الامومي في بدايات الحب، وتنطقها بإحساس الأنثى التي تتخلق كوطن لذلك المراهق.. كانت النكهة التي قيلت بها تلك العبارة في السجن نكهة الأسى والمرارة كانت بطعم شرهة العاشقة. وكأنها بذلك النداء تختصر كل الملامة وكل العتاب الموجع. هانا المرأة المرتابة: هانا التي تساعد مراهقاً مريضاً هي التي نكتشف مع أحداث الفيلم إنها المرأة النازية المجندة لحرق السجينات اليهوديات.. هانا التي تنحاز لفكرة أن السجينات لو فتحت أبواب السجن لهن لأثرن الفوضى. لذا فضلت أن تظل الأبواب مقفولة وتحترق السجينات على أن لا تثار الفوضى. إنها امرأة تفعل اللا متوقع. وهي شغوفة بما يقرأه «مايكل» الفتى من روايات لم تكن وبرغم الحميمية التي بينهما قادرة على أن تكشف له سرها البسيط بأنها تجهل القراءة، وتبالغ في كتمان سرّها أثناء المحاكمة وتوافق على أنها هي من كتبت التقرير الذي يدينها. هانا المرأة الهادئة، الرتيبة، المتظاهرة.. التي تفعل الأقصى من العمل الإنساني بمساعدة مراهق لا تعرفه و تفعل الأفدح من المأساة الإنسانية بالمساعدة في إحراق السجينات. هي امرأة المتناقضات اللامريئة. هي التي لا تستطيع أن تنحاز لفكرة أنها مذنبة تماما.. ولا تنحاز أيضا إلى أنها المرأة المريبة أو المرأة الجاسوسة. هل قادها جهلها بالقراءة للعمل في الاستخبارات الألمانية لا أظن ذلك فهي بحدسها تستطيع أن تعرف فداحة عملها.. لكن المخرج يريد القول بأن القتلة الذين يشبهون تلك المرأة المدانة لديهم جانب عاطفي رائع ف «هانا» لها كبرياء رائع ولها قناعات صلبة تجعلها لا تبوح بسرها الصغير الذي يقودها إلى السجن الطويل. الشغف السري القاتل: هناك إشارة خطيرة قالتها إحدى المتهمات عن هانا: كانت تجعل النساء يقرأن بصوت عال لها. كن يقرأن لها ظناً أن هذه الحارسة آلهة حساسة أكثر إنسانية. كانت تختار المريضات والضعيفات وكانت تبدو وكأنها تحميهم ولكن بعدها كانت ترسلهن إلى الموت.. هل هذا لطف؟! هل تعمدت «هانا» اختيار مايكل المراهق الذي أغرته بالحب لكي يقرأ لها؟ هل فعلت مع مايكل ما كانت تفعله مع السجينات لكي تتدبر أمرها مع المعرفة!. عندما كانت ترافق مايكل في المطعم شاهدت الصغار يقرأون ولاح من عينيها الأسى والحسرة على جهلها التام بالقراءة. ربما ما كانت تفعله مع مايكل لم يكن حبا فهي لم تحاول حتى أن تعرف اسمه. فهي كانت تندمج مع ما يقرأه لها حد الفرح وحد البكاء. «هانا» التي وجدت في القراءة النافذة الجديدة.. ومنحتها الضوء لتبصر الحياة وهي تقرأ بكثافة في مرحلة متأخرة.. أضافت لها القراءة جاذبية ومنحت ملامحها ألق وهي داخل السجن. اختار لها المخرج نهاية تتلاءم معها، فالكتب التي ساعدتها في التعلق بالحياة من جديد.. هي التي جعلت هانا تضعها تحت قدميها وتساعدها في الانتحار، وكما أن الجهل بالقراءة كان السر الذي رفضت أن تكشفه في المحكمة قادها إلى السجن كانت أيضا الكتب تؤدي دورا مساعدا في إنهاء هذه المرأة التي نبجلها ذنبا وغفرانا. الحب المختلف وفداحة السرية: فيلم The Reader يخوض في تفاصيل الحب المختلف. في الحب الجزئي الذي يتعلق فيه الرجل بجزء ما في المرأة. هذا الحب الجزئي لا يقود إلى التضحية الكاملة. تماما كما فعل مايكل مع هانا.. وكذلك أن الشغف بشيء ما لا يعني المحبة الكلية. قد يقودنا فقط إلى استلطاف شخص ما. ف هانا وبرغم الحميمة التي جمعتها بمراهقها الصغير غادرته بهدوء دون أن تخبره.. دون أن تفكر كيف سيكون حال الفتى بعد رحيلها. إن الحب الجزئي يقود إلى التخلي، لكنه لا يمنح، لا يعطل الذاكرة، لا يجعل التفاصيل تنسى.. إن أثره راسخ كما لو كان حباً مكتملاً. كذلك الفيلم يمنحنا الالتفات إلى أهمية كتمان الأسرار الصغيرة بمختلف الدوافع سواء كانت نبيلة أو سيئة وكيف لها أن تتحكم في مصائر الآخرين. هانا كتمت سر جهلها بالقراءة لكي لا ينظر لها بأنها امرأة أمية لا تجيد القراءة.. ومايكل كتم أيضا سر هانا حتى لا يفقد مستقبله في وظيفة المحاماة، فربما للأسرار الصغيرة كبرياء يقود إلى النهايات القاتلة. وأن تلك الأسرار تتحول إلى باعث للذة المشتركة. فحين اختارت هانا كتاب (السيدة والكلب الصغير) كان ذلك الاختيار إشارة إلى لذة السر الصغير الذي جمعها مع الولد الصغير الجاد.