يختلجني فيض كبير من المشاعر في حدث لست أجد وصفاً مختصراً مناسباً أستطيع أن أعبر عنه وأنا في هذه الحالة من تشوش البال واحتدام المشاغل المرافقة لحدث بمثل هذه الرهبة، إنه الشعور بالمرارة لفقد أخ كان بمثابة الروح التي تحفزني للعطاء، وشعور آخر يعتريني لا يقل لهيباً أو مرارة بفوات الكثير من الوقت الذي لم استطع أن أكون بجانبه لأغترف أكثر من هذا المعين وأنهل من بحر فكره الثاقب. لعلها ضريبة المسؤولية ومشاغل الحياة التي تباعد أجساد الأحبة دون أن تباعد بين القلوب. الأخ في أدبنا العربي وفي تراثنا الإسلامي مفردة تضيق دون توضيحها سعة الألفاظ وتنحني أمام نبلها شامخات الكلمات، وتذوب في رقتها أعذب العبارات، إننا عندما نريد أن نعبر عن حبنا وتوثقنا ورضانا عن أي علاقة نلبسها هذه المفردة لنختصر بها الكلام الطويل والسرد الممل. حتى أن مفردة (فقد) لا تحكى عند موت أحد مهما كان موقعه في حياتنا إلا عند موت الأخ، فالابن مولود والزوج موجود والأخ مفقود كما جاء في بعض المأثورات! وقد يرافق هذا الشعور إحساس بمرارة اليتم، عندما يكون الأخ مصدر إلهام وعطاء كما في حالة فقيدنا الكبير، وهو طعم مر جربه كثير ممن فقدوا شقيقاً بحجم الأخ عبد الله ... وبمقدار حسرتنا وتألمنا على رحيل رجل بمثل هذه القامة فإن شعوراً بالفخر يمتزج بالألم كونه ساهم بكل ما في وسعه من أجل بناء هذا الوطن، وخطّ لنا مساراً واضحاً، ورفع في سمائنا سراجاً منيراً ينثر الضوء في دروبنا، ويمتد بكل شموخ إلى دروب الجيل القادم من أبنائنا وبناتنا. أما القلوب فشغفها لا ينتهي بالرحيل الأليم، والذاكرة تنضح بذكرياته، لكني أتساءل أين ستتجه الأبصار في المجالس التي -كان رحمه الله- يرتادها، فقد كان فيها مصب الأنظار، وموقع التبجيل والاحترام، لما كان في طرحه من عمق ورشد كبيرين. تبنى رحمه الله في بداية شبابه تجمعاً أدبياً صغيراً.. هنا كانت تحلق فراشات الشعر، في زاوية يتذكرها جيداً رفقاؤه كان للبلاغة والنقد الأدبي حضور؛ كانت أوقاتاً تضج بالقصة والرواية والمقالة وجميع أشكال الأدب العربي.. مضى من بينهم .. غادرهم دون ضجيح. في الدائرة الأسرية الكبيرة كان الأقرب إلى الجميع، يحرص على تقصي أخبار أفراد الأسرة الكبيرة كما العائلة الصغيرة.. فرداً فرداً. كان يبث الحميمية بيننا، يشاركنا الرأي والهموم، يبدد فينا كآبة الحياة فيحيلها لوناً بهيجاً. حينما كان طريح الفراش، كان يجيب باقتضاب على أسئلة أفراد الأسرة عن صحته، ويبدأ بالسؤال عن أخبارهم واحدا ًواحداً، عن الحاضرين والغائبين، لا يكتفي بإجابات عابرة، بل يتجاوز ذلك ليطمئن على تفاصيل أحوالهم، غير مكترث بآلامه طالما وجد الآخرين بعافية. لقد كان رحمه الله مثالاً لسعة الصدر في مواجهة المصاعب، وأنموذجاً للعزيمة والإرادة التي لا تعرف الكلل والملل، فكلما صادف في طريقه شدة وعقبة واجهها بعبقرية وحكمة. كان ينظر إلى التحديات باعتبارها فرصة للوثوب وإثبات القدرة على المواجهة. من يعرفه عن قرب لا شك أنه تأثر بهذا الأسلوب، فقد أخذ على نفسه أن يزرع دائماً وأن يشعل شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام. إن الدور الذي أخذه على عاتقه في تعزيز الإيجابية في الحياة، وإنارة دروب الآخرين، والسعي لخدمة من يعرف ومن لا يعرف، هذه الصفات وهذا الدور يجعل من الصعب جداً على أحد ممن هم في دائرته القريبة (وما أوسع هذه الدائرة بحكم علاقاته الممتدة) أو ممن تعامل معه يوماً ما أن ينساه. ما يخفف شدة حزني على هذا المصاب الجلل هو شعوري بأن إلى جانبي الكثير ممن يشعرون بالحزن والأسى، وعلى رغم أن هذا الرحيل خلّف وجعاً عند الجميع، إلا أن المواساة جاءت بحجم هذا الرجل العملاق.. العملاق في إنسانيته وروحه الخلاقة قبل أن يكون عملاقاً في ساحة الاقتصاد. ولعل في كلمات الرثاء متسع لكنني سأدع لقلبي نصيباً من اللوعة لا أجد لبثه سبيلا! وسنظل نشتاقك ما حيينا، ونتذكرك في كل لحظة حب، ومع إشراقة كل أمل زرعته فينا، وفي كتاب الله أحسن العزاء. «إنا لله وإنا إليه راجعون».