يذكر أن الدُّجَيْما كان بدوياً من أرض الحجاز، وكان فقيراً لا يملك من الدنيا إلا ناقته وبندقيته، عشق فتاة في ريعان الصبا اسمها سميحة، رآها مع صويحباتها يروِّين القِرَب عند غدير، فأسره هواها وشفه حبها، ولتواضع حاله طلب الرفد من عشيرته فلم يخذلوه ولكن أهل الفتاة رفضوه ولم يزوجوه، فأسف على حاله وقال فيها أرق الشعر، وذات مرة رآها عند الغدير فدنا منها وقبلها على حين غفلة من رجالها، وسرت الشائعات ولكنها كتمت ماحدث خوفاً عليه وبعد وساطات من حكماء العشيرتين هدأت النفوس، ثم قام أهلها بتزويجها وبعدها قرروا الرحيل، وبعد أن يئس الدجيما من بلوغ أمنيته ضعفت حاله وفي يوم من الأيام أطل من فوق تلة نحو مضارب حبيبته فرأى أهلها وهم يجهزون للرحيل، فمرض بعدها ثم أسلم روحه، وشاعت قصيدته التي يتوجع فيها ويتمنى على رفاقه أن يدفنوه في دافي حشا محبوبته، وفي مستكن روحها، فهي أشهر قصص الحب في الجزيرة العربية في العصر الحديث. في القرن الثالث عشر انشغلت دمشق بفتوى موقعة باسم الفقيه الحنبلي ابن تيمية تبيح للعاشق الذي بلغ به الهوى حد التلف أن ينال من حبيبته قبلة عابرة وعناقاً خاطفاً عسى أن يطفئ من لوعته، فكتب تلميذه ابن القيم في (روضة المحبين) صفحات يكذب فيها تلك الفتوى ويشكك في نسبتها إلى شيخه. وقد كان ابن الجوزي المفسر والمحدث والفقيه ذواقة للجمال، وكان يعظ كل أسبوع أمام قصر الخلافة ببغداد، فلمح بين الحضور طليقته بجمالها الأخاذ فأثارت مواجعه، ولم تكد عيناه تكتحلان بها حتى جثا أمامها سيدتان سمينتان فحالتا بينه وبينها فقال: أيا جبليْ نعمان بالله خليا سبيل الصبا يخلص إليّ نسيمها وبعد أن رآها قال فيها قصيدة حلوة يصف فيها شوقه إليها، يندر أن تفيض بها قريحة فقيه، وربما كان كتابه الكبير (ذم الهوى) عن فلسفة الحب، زفرة صدر محزون، ونفثة كبد موجوعة. ولم يكن غريباً على فقهاء أهل الظاهر ومنهم ابن حزم الأندلسي أن يقعوا أسرى الحب ويكتبوا في أنواعه وتفاصيل أحوال المحبين، وقد كان كتابه (طوق الحمامة) من أوائل الكتب التي ترجمت إلى اللغات الأوربية في عصر مبكر. عاش ابن حزم طفولته ومراهقته بين نسوة القصر وجواريه، فأصبح خبيراً بقصصهن وخفايا البنات وحيلهن وقصصهن، وحكى في طوق الحمامة عشرات قصص الحب من خبرته الشخصية. رافقت مرة واحداً من أصدقائي إلى أطراف المدينة، فوقفنا أمام أرض بيضاء اعتاد زيارتها بين الفينة والأخرى، وجعل يلتقط من بين الرمال والحصيات بقايا شريط كاسيت ويريني إياها، كان هذا الشريط يحوي تسجيلاً للحظات وداعه الأخيرة الناشجة لحبيبته، وبعد أن أُغلقتْ في وجهه كل السبل للزواج منها أتلف الشريط ونثر أجزاءه فوق تلك الساحة، وقد قضى من عمره عشر سنوات يسأل عن حالها ويترصد أخبار حياتها الجديدة بعد أن رزقت بأطفال من زوجها، ولكنه عاش يُمني نفسه بأن الحظ قد يبسم له يوماً، ويجتمعان بعد سنوات من الفراق. ذات مرة جمعني السجن بشاب أفغاني من الطاجيك اسمه قمر الدين، عشق فتاة من أهل الطائف وهربا جميعاً إلى باكستان، كان يعمل في مطعم وكانت الفتاة مخطوبة لرجل مسن من أبناء عم والدها كان في الخامسة والستين وهي لما تزل بعد في السابعة عشرة، ولما عزم والدها على تزويجها رغم رفض والدتها وبعض إخوتها طارت مع قمر الدين إلى بيشاور، كان قمر قد ناهز العشرين ربيعا فأتما عقد الزواج، وفي الشهر السادس من حملها أخذها الشوق إلى أهلها بعد محاولات يائسة للحديث معهم كانوا فيها يغلقون السماعة بوجهها، وبعد أشهر من إلحاحها على العودة رغم المخاطر على حياتها، أذعن لرغبتها ولكنه لم يتخل عنها، فجاء معها وسلما نفسيهما إلى السفارة السعودية وأعلن أنه سيتحمل كل العواقب ولكنه مع كل ذلك سيقف أمام (عمها) بشجاعة وشرف ويطلب منه أن يبارك زواجهما، قال لي مرة ونحن أمام المغاسل «أنا مستعد أن أعيش راعي غنم عند والد زوجتي حتى أموت ولن أتخلى عنها ولا عن ابني»، والأغرب من ذلك انه كان يلح بشكل أسبوعي على إدارة السجن أن يزودوه بأخبار زوجته وتطورات حملها، كان يقول لهم «أريد أن أعرف أخبار ابني وزوجتي»، وبعد فترة من إقامته بيننا نُقل إلى سجن آخر وانقطعت أخباره. من النادر أن نجد من الرجال من يتمتعون بحس أخلاقي رفيع يحول بينهم وبين استغلال عواطف الإناث في مجتمعات محافظة جداً تتغاضى عن الرجل وتسامحه وتفتك بالمرأة وتسحقها إن هي انجرفت فتعيش البنت حسرتين، خداع الرجل ونبذ المجتمع وظلمه. فالحب في بداياته بين الرجل والمرأة يكون حارقاً جارفاً أصم، ولكنه بعد حين يخفت أواره وتهدأ عواصفه، لهذا تكون العواقب وخيمة والنهايات محزنة لأولئك اللواتي ارتبطن بمن لايملكون رصيداً من النبالة والرجولة تحملهم على الشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب. في الأربعينيات الميلادية كتب أديب الحجاز حمزة شحاتة عن الرجولة ووصفها بأنها عماد الخلق الفاضل، ونحن اليوم في علاقاتنا بالإناث بحاجة إلى كثير من الرجولة والشعور بالمسؤولية والكثير الكثير من الصدق. فما بين قصص حب فقَستْ عن مثقف استغل معجبة، ونجم عبث بهائمة ولهى، وكاتب لبس رداء التحرر واستبطن الجاهلية العمياء ومضى يحيك حبائله لفريسة أخرى، ومابين قصة حب شرقية انتهت بإحراق الفتاة وتشويهها مدى الحياة، وأخرى هندوسية تمرد فيها المحبان على عائلتيهما لتنتهي بقتل أربعة عشر إنساناً قطعت رقاب بعضهم؛ من بين هذه الأحزان تشخص أعظم قصص الحب التي خلدها الأدب الإنساني، وتناقلتها الشعوب وترجمت إلى كل اللغات، عن روميو وجولييت وشاه جهان وممتاز محل وعن ليلى العامرية وقيس بن الملوح، وعن إيزيس وأوزوريس وعن وفاء الرسول لخديجة، وعشق المعتمد بن عباد لجاريته اعتماد التي تزوجها وعاشت معه السراء والضراء، ونهاية الدجيما ومحبوبته سميحة، فتلك القصص تلهمنا وتوقظ فينا أنبل المشاعر وأرقها وأصدق العواطف في لحظات الضعف والتلطخ بالأدناس. لقد أدركتُ في سنوات مراهقتي شيوخاً يتحلقون بعد صلاة الفجر في مسجد الحميدي جنوب بريدة يتوسطهم الشيخ ويقرأ أحدهم في روضة المحبين لابن القيم، ثم يسيحون في عالم من النقاء عن أولئك الذين يعشقون فيعفُّون ثم يرحلون عن دنيانا بأوصاب نفوسهم، عن كيف يشتعل القلب حباً وكيف يخبو ويأسى، عن كرم البخيل بعد عشقه، وعن جبناء رماهم الحب بشباكه فحولهم إلى فرسان في حومة الوغى، وعن سادة أذلهم الهوى وضعضع كبرياءهم. من مثل هؤلاء الشيوخ من فقد رفيقة عمره بعد خمسة عقود من العشرة بالحسنى والرأفة والمحبة الصامتة، فانفطر قلبه ولم يلبث إلا تسعين ليلة حتى لحق بصاحبته. وتحوي الأفلام والأساطير التي تنتجها هوليود قصص حب مذهلة كتلك الجنية في فيلم سيد الخواتم التي أحبت الملك البشري فكان عليها أن تختار بين الخلود وبين حياة البشر، بين قلبها ورغبة والدها ملك الجن الذي أراها كيف سيكون مستقبلها حزيناً وصقيعاً من الوحدة بعد رحيل حبيبها، ولكنها اختارت الحب. وقد تحدث سلفنا عن وجهاء وقضاة ومؤذنين هزمهم الحب فخلعوا العِذار وألقوا عنهم جلباب الحياء وهاموا على وجوههم في إرضاء الحبيب، وهو مايحدث اليوم حينما تتكشف الخبايا عن شيوخ يسوطون الخلق ليلاً ونهاراً وعظاً وتخويفاً ولكنهم ينهزمون فيخضعون لمن يهوون ويتغاضون عن من يحبون وينقادون تنفيذاً لرغبات من يعشقون ويرتكبون مايحرمونه على الناس. ولكن إذا كانت هذه القصص تروى على سبيل التندر والاعتبار فإن مخزون الذاكرة الإنسانية من حكايا الحب الطاهر والنقي كفيل بأن ينسينا تلك الأحزان والوجوه القاتمة للنفوس المظلمة ويحيي فينا نبعاً من الخلود يطري حياتنا ويندي جفاف الكراهية من حولنا.