الإشكالية الثانية التي تفوق - في الأهمية - الإشكالية الأولى (= إشكالية لغة الخطاب التحريضي)، هي إشكالية تحويل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى صراع ديني. وهنا، لا بد من نزع الفتيل، أي لا بد من التأكيد على أن الصراع بيننا وبين دولة إسرائيل ليس صراعا دينيا، وإنما هو صراع على حق مسلوب، صراع بين ظالم ومظلوم. لا بد من تنزيه الدين عن هذا الصراع. والأسباب الداعية لهذا التنزيه كثيرة وخطيرة. وأهمها - في تصوري - ما يلي: 2- 1- مع أن الصراع في حقيقته ليس دينيا، إلا أننا نتعامل معه على أساس مغلوط، أي نتعامل معه على أساس أنه صراع ديني محض. هذا الوهم (المقدس)، لا يزيدنا وعيا بقضيتنا، وإنما يُغرقها في عواصف من الأوهام الإيديولوجية الهوجاء، التي تحجب الرؤية، وتنحرف بنا عن جوهر قضيتنا، وحقيقة الصراع الدائر منذ أكثر من ستين عاما. الأديان لا تتصارع، وإنما القائمون عليها. وهؤلاء مرتبطون بالزمني والمباشر أكثر من ارتباطهم بالمثالي والمتعالي. هذا إذا افترضنا أن الصراع يدور بين أتباع ديانتين، على خلفية انتماء حقيقي عند كليهما. أي إذا افترضنا أننا نخوض الصراع من حيث نحن مسلمون، وهم يخوضونه من حيث هم يهود. وليس هذا هو الواقع الذي تكاد تحجبه ادعاءات هؤلاء وهؤلاء، بل ويستغله الشعاراتيون من هؤلاء وهؤلاء. هناك فرق بين أن يستغل الدين في الصراع، ويتم توظيفه لهذا الطرف أو ذاك، وبين أن يكون الدين هو مصدر الصراع، والعامل الأول والحاسم فيه. وجود الأول: استغلال الدين، لا يعني وجود الثاني: كون الصراع دينيا. ولا شك أن الخلط بين الأمرين ليس خلطا متعمدا في كل الأحيان، وإنما قد يمارس - لا شعوريا - من قبل ضحايا الصخب الشعاراتي. بينما أبواق هذا الصخب الصاخب، هم المتاجرون بهذا الخلط الذي يجعل الجماهير تسخو لهم بأرواحها البريئة من هذا الاستغلال. إذن، الصراع صراع على الأرض، وليس صراعا على الحقائق الدينية بين الإسلام واليهودية. وهذا النفي ليس من اختراعي، وإنما هو رأي أكبر الدارسين العرب / المسلمين لليهودية والصهيونية: عبد الوهاب المسيري. المسيري لم يقدم هذا الرأي نتيجة دراسة عابرة، أو حتى في رأي عابر، وإنما قدمه بعد دراسة معمقة لليهودية والصهيونية، واهتمام طويل بهما؛ امتد لأكثر من أربعين عاما. يؤكد المسيري أن الزعم بأن إسرائيل يهودية، وأن صراعنا مع اليهود، يستلزم وجود وحدة هوية تنتظم اليهود. وهذا لا وجود له. فاليهود الآن، لا تجمعهم هوية واحدة، وليس لهم تاريخ واحد، ولا ثقافة واحدة، بل ولا عرق واحد. وهذا ما طرح إشكالية: من هو اليهودي ؟. وهي إشكالية لا تزال حية في إسرائيل، وتطرح نفسها بإلحاح على التشريع المدني، فضلا عن الرؤية الثقافية. فادعاء الاستمرارية بين الماضي والحاضر والمستقبل هو - كما يؤكد المسيري - جوهر الرؤية الصهيونية التي تؤكد وحدة الهوية اليهودية، واستمرارية التاريخ اليهودي. عندما يشير القرآن إلى اليهود، فإنه يعاين اليهود في زمن خاص، ومكان خاص أيضا. يهود المدينة وخيبر (= الكوهانيم) ليسوا هم - فقط - يهود آنذاك. ويهود العالم آنذاك - بما فيهم يهود المدينة وخيبر - ليسوا يهود اليوم. هناك أنواع ودرجات من التمايز، تجعل من المستحيل تطبيق وصف واحد جوهراني على اليهود قاطبة؛ ومن ثم التعامل معهم على هذا الأساس. ولهذا يجزم المسيري بأن "الغالبية الساحقة ليهود العالم لا ينطبق عليها التعريف الإسلامي لليهود". يشير المسيري - أيضا - إلى مسألة علاقة اليهودي باليهودية، بعد أن يفرق بين اليهودي واليهودية. فاليهودية اليوم، حتى على افتراض وحدتها واستمراريتها التاريخية، ليست هي الموجهة لسلوك اليهود؛ لأنها - كموضوع إيماني - ليست حاضرة وفاعلة في الوعي اليهودي. ومن ثم، ليست الموجه الرئيس لسلوك اليهود. أي أن الغالبية الساحقة من اليهود ليسوا يهودا؛ حتى من حيث التصور المعاصر (المغاير للتاريخ) الذي تقدمه المؤسسات الدينية اليهودية لليهودية، وتحاول تعميمه كهوية عامة وجامعة لليهود. هذا من حيث علاقة اليهودي بالنسخة - أو النسخ - المعاصرة لليهودية. أما عن الصهيونية التي يتصورها سدنة التقليد مصطلحا مرادفا لليهودية، فالمسيري يفضحها كإيديولوجيا عنصرية، معادية للعرب واليهود معا؛ رغم أنها تمارس توظيف اليهود كجماعات وظيفية، واستغلال الثقافة الدينية اليهودية، والتاريخ اليهودي؛ كإيديولوجيا تعبوية، بعيدا عن مقتضيات العقائد، واستحقاقات الإيمان. المسيري لا يطرح هذا الرأي كتصور ذهني؛ دون أن يؤيده بدلائل من وقائع التاريخ الصهيوني. فمؤسسو الحركة الصهيونية - كما يذكر المسيري - كانوا ملاحدة، وزعيم الحركة: هرتزل، كان لا يعرف الشعائر اليهودية، حتى أن الحاخام الذي أتى لعقد قرانه، خرج ولم يكمل مهمته؛ لأنه رأى أنه لا يمكن عدّ هرتزل يهوديا، بل إن أعظم فيلسوف يهودي في القرن العشرين: مارتن بوبر، أهدي له التلمود في عيد ميلاده الستين، وكانت هذه أول مرة تقع عيناه على التلمود!. هذا واقع الصهيونية من جهة، وواقع اليهود؛ في علاقتهم باليهودية، من جهة أخرى. إنه واقع اللامتدين، بل - وأحيانا - المعادي للدين. بينما يحرص كثيرون من مؤدلجينا على تصوير الإنسان اليهودي المعاصر، وكأنه يتوسد التوراة والتلمود، ويمارس سلوكه اليومي على إيقاع التعاليم والتوجيهات الدينية؛ إلى درجة تصوير اليهودي ككائن ديني، بل يتم تصويره - أحيانا - ككائن ديني مجرد من كل العوامل الزمنية الراهنة، أي كتجسيد آلي ومباشر ليهودية معلقة في فراغ تاريخي. لا ينفي المسيري أن الديباجة التوراتية والتلمودية ديباجات لها مهمة تعبوية في الداخل اليهودي، وتسويغية أمام الرأي العالمي. لكنها - كما يؤكد - لا ترقى إلى مستوى البنية الواقعية. ولا شك أنه - في المقابل - ليس الإسلام هو الطرف الحقيقي في جدلية الصراع، وإنما يتم توظيفه في التعبئة والتسويغ. وتأكيد الخطاب الإسلاموي على يهودية السلوك الإسرائيلي، لا يراد به تأكيد الصفة (اليهودية) لسلوك الآخر؛ بقدر ما يراد به تأكيد الصفة لسلوك الأنا، أي لتحقيق صفة (الأسلمة) ونقلها من شعار تعبوي، إلى حقيقة، أو - على نحو أدق - إلى حقيقة جماهيرية، تستبطنها الجماهير، بينما الساسة المتأسلمون، أو قادة الحراك الإسلاموي، واعون بأنه مجرد توظيف سياسي للدين، وليس سلوكا نابع من حقائق الدين. هنا، يختلط الجهل بسوء القصد. فالأبواق الشعاراتية ليست على مستوى واحد في الوعي بحقيقة التوظيف الشعارتي للدين، كما أنها ليست على مستوى واحد في حظها من العائد النفعي السياسي جراء توظيف الدين في هذا الصراع. وهذا ما يجعل من بعضهم يتحدث - بجهل فاضح - عن عداء يهودي أزلي. وبعضهم الآخر، يتحدث - باستغلال مفضوح - عن ضرورة تديين الصراع بين اليهود والمسلمين. الآن، تدور حرب غزة بين طرفي صراع، يحاولان تديين الصراع على المستوى الشعاراتي. وبينما تصدق الجماهير هنا وهناك، يدرك المتاجرون أن صراعهم على وقائع أرضية، وليس على حقائق سماوية. ولهذا لم يكن غريبا أن تعلن حماس أنها ستقبل بالهدنة المشروطة بالتوافق الوطني؛ فيما لو تمت شراكة حقيقية لحماس في السلطة. أي أن الصراع الحمساوي - في عمقه المجرد من غطاء الشعارات الإيديولوجية - كان صراعا على السلطة. وسيرضى قادة حماس - كما يشير التصريح الأخير - فيما لو تم إعطاؤهم نصيبا من هذه السلطة؛ بعد أن أدركوا أن من المستحيل عليهم الاستفراد بها. لقد أدركوا أن شروط الواقع الفلسطيني، والواقع العربي والدولي، قد تسمح لهم بشراكة في السلطة، ولكنها لن تسمح لهم بأن يتربعوا - لوحدهم - على العرش الموهوم. رغم كل هذا الوضوح، قد لا يدرك المأخوذون - من الجماهير والكوادر الميدانية الفاعلة - بتديين الصراع، تلك الحقيقة المرة، وهي أن آلاف الضحايا بين قتلى وجرحى، لم تكن إلا قرابين حمساوية، يدفعها الأبرياء؛ ليظفر القادة (الفاتحون!) بشيء من الانتفاخ الطاووسي أمام عدسات الإعلام الفضائي الصاخب، ليتبرجوا ويستعرضوا - كنجوم السينما - دقائق مدفوعة الثمن من دماء وأشلاء الإنسان الفلسطيني المخدوع. 2- 2- تديين الصراع، فضلا عن كونه - كما سبق - تزييف للواقع، وإنكار لحقائقه، هو إسباغ للقداسة على أطراف الصراع، وعلى وقائع الصراع. وإذا حدث هذا؛ أصبح من المستحيل معاينة الوقائع كما هي؛ لأن كل طرف هو عند مؤيديه مقدس، وفعله مقدس أيضا. وحين تصبح الوقائع والأشخاص على هذا النحو، يصبح الصراع بين إيمان وكفر، ومن ثم، يستحيل وضع الفعل الإنساني / البشري موضع المساءلة؛ لأن الفعل سيصبح عدوانا على الإيمان؛ كتفريع منطقي للعدوان (= المساءلة النقدية هنا) على الأشخاص. إذا أصبح الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، صراعا إسلاميا - يهوديا، يصبح المتردد والمتحفظ على طبيعة الصراع، خائنا، ومن ثم، كافرا. فالمسلم الذي لا يوافق على خوض الصراع على طريقة حماس يصبح - في نظر مديني الصراع - مؤيدا لإسرائيل، وداخلا في تحالفات الكفر ضد الإيمان. أي أنه في خانة الكفر صراحة أو ضمنا. وفي الطرف المقابل، يصبح اليهودي / الإسرائيلي، الذي يعارض همجية السلوك الصهيوني، متآمرا ضد اليهود واليهودية، وربما - حتى ولو كان يهوديا! - معاديا للسامية. وكي يهرب المسلم من تهمة العداء للإسلام، يضطر لتأييد الصراع كما تقوده حماس، وكي يهرب اليهودي من تهمة العداء لليهودية، يضطر لتأييد الصراع كما يقوده الصهاينة. وكلاهما يهرب من الاتهام بالكفر، الذي يقود إليه تديين الصراع. 2- 3- وأخطر ما في تحويل الصراع إلى صراع ديني، أن هذا يقود - بالضرورة - إلى فتح جبهة صراع أوسع من إسرائيل. بل لا يتوقف الأمر عند اليهود في هذا التحويل، فالصراع سينداح عقائديا، إلى أن يصبح مواجهة مع العالم أجمع. ولهذا لم يكن غريبا أن تسمع بعض الشعاراتيين يصرح أن ما يحدث في غزة "حرب من العالم علينا؛ لأننا مسلمون". وأصبحت تسمع الدعاء لا ينصب على اليهود فحسب - مع خطئه حتى في هذه الحال - بل على المسيحيين أيضا، بل وعلى كل العالم. أي أننا - وفق هذا الفهم المعتوه - أصبحنا في حالة عداء مع كل العالم كله؛ دون تمييز، حتى في سياق العداء العقائدي ذاته. وهذا (= عداء كل العالم لنا) فيما لو حدث، يدل على عطب فينا؛ فليس معقولا أن يجتمع العالم كله على تجريمنا وحربنا؛ لمجرد العدوان على مجموعة من الأبرياء المتدينين. لا يوجد عداء موجه لجميع المسلمين لمجرد أنهم مسلمون؛ حتى وإن حاول بعض جهلة الشعاراتية الإيهام بهذا. فما يقع هنا وهناك، لهذا البلد الإسلامي أو ذاك، يقع جراء محددات صراع واقعية. ولهذا يظهر هذا في بؤر الصراع التاريخية. بينما معظم أوطان المسلمين لا تعاني من أي عداء - فضلا عن اعتداء - من أي نوع. ولو كان عداء للمسلمين، لمجرد كونهم مسلمين، لوجدنا كل العالم الإسلامي تحت القصف من قبل الآخرين - كل الآخرين! -. 2- 4- وضع الصراع في هذا السياق الديني، يمنع إمكانية الحياد في الداخل الإسلامي، وفيما وراءه. فمن يتحفظ على الصراع، سيواجه الداخل المعارض، وسيواجه - في حال اقتنع الآخرون بالصفة الدينية للصراع - المؤيد والمعارض في الخارج؛ لأنه سيكون أبعد من موقف سياسي أو - حتى - إنساني. أي ليس واقعا أرضيا يمكن إرضاؤه بدرجات معقولة من الحياد، وإنما موقف ديني (متعال، مقدس) في سياق الواقعي والأرضي والمباشر، بل والمدنس بالأهواء والرغبات والمطامع الإنسانية التي لا حدود لها. 2- 5- كما أن وضع الصراع في هذا السياق الديني، سيهيئ لإمكانية استغلال هذا الظرف الصراعي، في التوظيف الإيديولوجي. فالشحن الديني الذي يرافق تديين الصراع، لن يقف عند حدود الصراع مكانيا، ولن يقف عند حدوده زمانيا. وهذا ما جعل المستفيد - والمؤجج في الوقت نفسه - من حرب غزة، هو إيران والمشروع الإيراني التوسعي من جهة، والحركات الإسلاموية المتطرفة من جهة أخرى. ولهذا، لم يكن الحماس المتوقد الذي أظهرته هذه الحركات المتطرفة - بكل تنويعاتها - أكثر من حماس لحماس، وليس حماسا لغزة، وأهالي غزة. ولو أن الهجوم الإسرائيلي وقع على مناطق نفوذ السلطة، لم نر هذا الحماس، أو لم نره على هذه الدرجة من التوقد الإعلامي المريب. في تقديري، نجت حماس - ومن ورائها الحركات الإسلاموية وجماهيرها - في جر الجماهير إلى مربعاتها، بل وإلى توظيفها في الترويج لمشاريعها الخاصة. فجراء تجريم وتخوين، بل وتكفير، الموقف المتحفظ على طبيعة الصراع ومسبباته وتوجهات المعركة، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين إلى تقديم شيك من التأييد المعنوي على بياض لحماس، وللحركات المتأسلمة من ورائها. يكفي أنها في صراع مع إسرائيل. أما كيف ؟ ولماذا ؟ وأين ؟ ومتى ؟ وجميع الأسئلة، فقد تم سحقها تحت عجلة تقديس الصراع، إذ هو صراع مقدس، لا مكان فيه للتساؤل، كما لا مكان فيه للمساءلة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة؛ كما يقول المفلسون، ومن قبلهم المتاجرون بهذا الإفلاس. الآن تربح إيران، ويزدهر نفوذها تغلغلا في العالم العربي؛ عبر الدُّمى الحمساوية، ويزداد - في الوقت نفسه - وهج الإسلاموية تألقا، وتدخل - من بوابة فلسطين - إلى قلوب الجماهير، تلك الجماهير التي تركت هذه البوابة مفتوحة على مصراعيها لكل المهرجين والغوغائيين، ولكل المستغلين لضحالة الوعي الجماهيري في الشارع الإسلامي. وبينما يربح هؤلاء وهؤلاء، ليس ثمة من خاسر إلا الإنسان الفلسطيني في غزة المنكوبة، حيث يرقص عشاق السلطة وتجار الشعارات الإيديولوجية على أشلائه الممزقة؛ لتكون هذه الأشلاء الطاهرة وليمة لأكلة لحوم البشر؛ أولئك الذين يظهرون - أو يتظاهرون فيصدقهم المغفلون! - في صورة الأتقياء الأنقياء المخبتين.