الزمن الجميل يعني الماضي. أخذنا هذه الكلمة من أخواننا المصريين. أي شيء ينتسب للماضي ينتسب للجمال. بصراحة لم أر في الماضي إلا قليلا من المسرة وكثيرا من المغثة. لا جولات ولا قنوات فضائية ولا سفرات زي الناس. أقصى ما نصل إليه في ذلك الحين البحرين ويا ليتك تشوف البحرين وذاك اللنش الذي يأخذنا من الخبر إلى المنامة. ثلاثة كيلو مترات نقطعها في ثلاث ساعات. بعد ساعة من الإبحار تصير ثيابنا ألواحاً ملحية من طرطشة الماء. جلست قبل فترة مع رجل مسن. لا يعرفني ولا أعرفه. مدير مكتب أحد المسؤولين. أول مدير مكتب عمره أكثر من سبعين سنة. رجل غارق في الماضي. جواله نوكيا أبو مئة وسبعين ريالاً. لا يعرف من الجوال إلا ألوه وكيف الحال. أما الرسائل والبلوتوث وتحديد الأماكن والإنترنت فلا علاقة له بها. حقه منها في الآخرة ان شاء الله. جلس يحدثني عن الرياض القديمة، رياض الستينيات. تكشف لي أنه واحد من عتاة الزكرتية، لا يمكن الحديث عن الرياض القديمة دون أن يعرج الزكرتية على المربع، المركز الرئيسي لتأجير أشرطة السينما.. كانت الرياض تحب السينما، نشاهدها في البيوت وفي النوادي الرياضية، نستمتع بالأفلام الجديدة قبل القاهرة وبيروت.. شاهدنا فيلم سيدة الأقمار السوداء في الرياض قبل أن يفسح في القاهرة. عدد كبير من عيال الرياض سقطوا في عشق السينما المصرية، فتيات السينما الجميلات أسرن القلوب، من فرط الهيام صار بعضهم يتكلم باللهجة المصرية وبعضهم غاص في التمصر إلى درجة أن تخلى عن الملابس السعودية وصار يلبس ثياب الصعايدة الفضفاضة. حدثني مدير المكتب العجوز عن عمله في وزارة الصحة وفي البلدية وفي وزارة المعارف، ثم ذكر أسماء عدد كبير من شباب جيله ومغامراتهم. استصغرني فأخذ راحته في السرد.. لم يطرأ على باله أنني أعرف معظمهم. صحح لي كذبة انطلت علينا أكثر من ثلاثين سنة أعتبرها أعظم كذبة في تاريخي.. ذكر اسم واحد من حارتنا كنا مجمعين على أنه أول واحد من عيال الرياض سافر إلى القاهرة كان اسمه محيميد، وكنا نسميه محمدين نسبة إلى أحبابه..يتقن اللهجة المصرية أكثر من أهلها. كان يجمعنا عند باب المسجد بعد صلاة العشاء ويقص علينا مغامراته في الدقي وباب اللوق ومصر الجديدة، قصص تشبه قصص الأفلام المصرية كنا نستمتع بها.. كانت أفضل بكثير من قصص الجن التي كنا نسمعها في مثل هذا الوقت من الليل. كان يكبرنا بعشرين سنة تقريبا، يخلط اللهجة المصرية مع السعودية ولكنه عندما عاد من القاهرة اختفت اللهجة السعودية من لسانه نهائيا. (أزيك يا نويصر) (وانت عامل أيه يا دحيم) (ما تبص أنت يا وله) (خش شوف حصيصه عامله الزيطة والزنبليطة دي ليه) كل المؤشرات تؤكد أنه سافر إلى مصر. فجعت عندما سمعت سعادة مدير المكتب يصحح الحقيقة التاريخية. قال إن محيميد لم يذهب إلى مصر ولم يتحول إلى محمدين أبدا. أخذ إجازة واستأجر شقة في منفوحة واختفى فيها مدة شهر وعاد يعلن الأكذوبة التي خفيت كل هذا الزمن. في لحظة خاطفة يستيقظ التاريخ ويصحح أكاذيبه.