تسعى المجتمعات المدنية الحديثة إلى التفاعل مع معطيات العصر والتناغم في منظومة الحضارة والتطور الملموس في جميع مناشط الحياة. ولكي تنهض الشعوب بثقافتها وتعليمها، بل وحياتها لا بد لها من أنظمةٍ وقوانين تواكب ذلك التطور وتحيط بمستجدات العصر فلا تترك الثغرات تلو الثغرات للخارجين عن النظام المتمردين على سلطة الدولة. ونحن في المملكة –كجزء من العالم– واكبنا تلك التطورات ومضينا قُدماً في اللحاق بتلك الثورة المعلوماتية والسير بخطى حثيثة وأقدام متسارعة نحو التطور والنهوض. إلا أن بعض أنظمتنا والقائمين عليها لم يلتحقوا بهذا الركب وكأنهم قد عاشوا في مجتمعاتٍ غير مجتمعاتنا. ومن ذلك نظام مكافحة التزوير الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( 114 ) وتاريخ 26 / 11 / 1380ه والمعدل بالمرسوم الملكي رقم ( 53 ) وتاريخ 5 / 11 / 1382ه الذي احتوى على (11) مادة فقط ؛ تطرقت في مجملها إلى شمول أحكام تزوير الأختام والتواقيع وتقليدها، وتزوير المحررات الرسمية والعرفية، وطرق التزوير المادي والمعنوي، وصفة المرتكب لجريمة التزوير، وكذلك جريمة استعمال المحررات المزورة، إضافة إلى النص على بعض الجرائم ذات العقوبات المخففة. وبالإطلاع على مجمل أحكام هذا النظام نجد أنها موضوعة لتتناسب مع أحكام ذاك العصر الذي صدرت فيه ؛ بل فيها من الملاحظات الشكلية والموضوعية ما يدفعنا على ضرورة إعادة النظر فيه إبان تلك المرحلة الزمنية الماضية ، فما بالك اليوم ونحن نعيش طفرة معلوماتية رهيبة ، وتعاملات اقتصاديةٍ معقدة ، ووسائل تقنية عالية الجودة ؟؟.. هذا ما يجب أن يدفعنا بشكل متسارع إلى ضرورة إعادة النظر في هذا النظام الذي مضى على إنشائه حوالي نصف قرنٍ من الزمان أو ينقص قليلاً !! وبنظرة عابرة لأحكام هذا النظام لم نجد تعريفاً يحدد ماهية التزوير بشكل دقيق ؛ بل إن الإيجاز الشديد في عدد مواد هذا النظام فتح مجالاً خصباً للاجتهادات الشخصية في الوقت الذي أحدث فجوات وثغرات ينفذ منها المخترقون للنظام !! . كما أن عدم استقلال كل نوع من الجرائم فيه بمادة مستقلة عيبٌ شكلي كان من الأولى تلافيه ؛ كما أن من المهم قبل ذلك أن يتضمن النظام: تحديداً دقيقاً لمحل التزوير المعاقب عليه نظاماً، وذلك من أجل أن يستوعب جميع الصور والطرق والأساليب الجديدة للتزوير في الوقت الحاضر، بما يغنينا عن ضرورة تعديله كلما ظهرت طريقة أو صورة أو أسلوب جديد للتزوير في عصرنا المتسارع. والأنظمة الجنائية – بطبعها – لا بد وأن تكون على درجة كبيرة جداً من الصراحة والحسم وعدم فتح الباب للاجتهادات والتخرصات في تطبيق أحكام تلك الأنظمة خصوصاً وهي أنظمةٌ تمس الصالح العام ، وتحفظ النسيج الاجتماعي للمجتمع، بل وتتعرض لحرية الأفراد وتسلبها لفتراتٍ قد تطول. وهذا ما نلاحظه عند تطبيق نظام مكافحة التزوير من قبل الجهات القضائية ( الدوائر الجزائية في ديوان المظالم ) فالصياغة الموجزة لأحكام النظام لم يجعلها على درجة كبيرة من الوضوح والصراحة والحسم. كما أنه من المفترض النص على أحكام جريمة التزوير كجريمة مستقلة، إضافة لجريمة الاستعمال؛ على اعتبار أن النظام لم يفصل بينهما بحدود واضحة، فإذا كان التزوير يعني: تغيير الحقيقة بطريقة مخصوصة على نحو يرتب ضرراً على الغير مع وجود نية استعماله فيما زور من أجله؛ فإن الاستعمال يعني: التمسك بالشيء المزوَر والاحتجاج به، وبالتالي فإنه يتصور وجود تزوير دون استعمال، كما يتصور ارتكاب جريمة الاستعمال دون القيام بالتزوير. ورغم ذلك فإن الاستعمال لم يستقل بمادة من مواد النظام، وإن تضمنه الجزء الأخير من المادة السادسة، مما أوجد عدم الدقة والتنظيم في النظام.كما أن العقوبات المقررة في هذا النظام ليست على قدر كبير من المرونة ؛ بل لم تستوعب جميع الوقائع التي انتشرت اليوم ويتم التحقيق فيها وعرضها على القضاء، يتضح ذلك باستعراض مواد ذلك النظام حيث تم وضع حد أدنى للعقوبة وهذا بدوره يجعل النظام لا يستوعب جميع الوقائع التي يحكمها، حيث أحدث نوعاً من التقارب بين الجرائم المتفاوتة، كما أنه يخالف المنهج الأمثل في تحديد العقوبات الجنائية المتضمن عدم وضع حد أدنى لها، وخاصة بالنسبة للعقوبة السالبة للحرية. كما أن إيجاب الجمع بين العقوبة السالبة للحرية والغرامة المالية في كل مواد النظام، أمرٌ يخالف المنهج الأولى بالاتباع من حيث فتح المجال أمام ناظر القضية في اختيار العقوبة الأنسب التي يراها حسب سلطته التقديرية سواءً من حيث جواز الجمع بين العقوبتين أو الاكتفاء بإحداهما. وهذا بدوره أحدث نوعاً من عدم مراعاة الظروف المشددة والمخففة المقررة شرعاً ونظاماً، على اعتبار أنها من الإطلاقات المتروكة للقضاء، حيث إن ضمانات القضاء وإجراءاته المعروفة هي خير وسيلة لإيقاع العقوبة على الوجه الأمثل من حيث مراعاة نوعية الجريمة المرتكبة، وحال المجرم، وأثر الجريمة على المجتمع، وهذه من المسائل التي لا يمكن النص عليها في الأنظمة أو تبنيها من الهيئة التنظيمية، بل الواجب رسم حدودها العامة وترك التطبيق فيها للقضاء الذي تخضع تقديراته للمراجعة عن طريق تعدد درجات القضاء. كما أنه وفي اعتقادي لا بد من مراجعة الغرامة المالية الواردة في أحكام هذا النظام، وضرورة رفع سقفها الأعلى وجعلها مواكبة للتطور الحاصل اليوم إذ معلومٌ أن الألف ريال كان لها من التأثير قبل ثمان وأربعين سنة ما ليس موجوداً الآن !! فكيف تظل تلك الغرامة على ما كانت عليه دون مراجعة أو تعديل ؟؟ .. بل إن النظام نص في المادة التاسعة منه على أن من زور في وثيقة رسمية أو في حفيظة نفوس أو جواز سفر أو رخصة إقامة أو تأشيرة من التأشيرات الرسمية للدخول أو المرور أو الإقامة أو الخروج من المملكة العربية السعودية فإنه يعاقب بغرامةٍ مالية من مائة ريال إلى ألف ريال !! فهل لازال لتلك الغرامة أثرها في الردع العام والخاص !! كما أرى أنه لا بد وأن يعطى القاضي صلاحية أوسع في العقوبة السالبة للحرية؛ بأن يخفض حدها الأدنى من سنة إلى شهر واحد حتى لا نلجأ لوقف تنفيذ العقوبة ! ولنا مع وقف تنفيذ العقوبة وقفات نتحدث عنها في مقالنا القادم في الأسبوع المقبل بمشيئة الله تعالى. *باحث قانوني