الزبير، هذه المدينة الصحراوية، ذات الطابع التاريخي، التي أسسها المهاجرون القادمون من قرى (نجد) عند آثار البصرة القديمة، قبل أربعة قرون تقريباً، فهي وريثة البصرة العمرية. تقع (الزبير) على امتداد الصحراء التي تفصل المهاجرين وتصلهم في نفس الوقت، مع منطقة نجد حيث منشؤهم الأول، وهناك أسسوا لأنفسهم نظامهم الاجتماعي الخاص، الذي حافظوا به على تقاليدهم تلك التي نشأوا عليها موطنهم، الأصلي. وتمسكوا بقيم وعادات خاصة بهم، هي ذات القيم والتقاليد التي حملوها معهم من قراهم في نجد، وحافظوا فيها على خصوصيتهم من لهجة وأسلوب في المعيشة ومن طراز البناء والملبس والماكل. ومن أجل ديمومة المحافظة على كل ذلك الطابع المتميز، فقد كان اختيارهم للمنطقة التي عمدوا للسكن فيها، وهي والمتسع، هو امتداد لوادي الباطن، وإن كانت غير بعيدة عن منطقة الأنهار والنخيل والزراعة في مدينة البصرة، غير أنهم فضلوا العزلة في تلك البقعة الصحراوية، وفي الوقت ذاتهم مدوا أذرعاً للتواصل والعمل وبناء علاقات عامة مع أهل المنطقة، ومن ثم، مع أهل مناطق العراق عامة تميزت بالنجاح الكفاءة والسيرة الطيبة، كما أظهروا قدرتهم على التفاعل (الحذر) الذي من شأنه أن لايؤثر على ثوابتهم، الدينية والاجتماعية، التي نشأوا عليها وحملوها معهم مهاجرين إلى موطنهم الجديد. وفي موطنهم الأم، المملكة العربية السعودية، كانت نظرة القيادة السعودية إلى هذه الهجرة وإلى المنطقة التي استقروا فيها وعمروها - مدينة الزبير- وإلى أولئك المهاجرين الذين دفعتهم الظروف إلى النزوح غير بعيدين عن نجدهم وعن ذويهم، كانت النظرة الحكيمة، متمثلة أولاً بالمغفور له العاهل المؤسس الملك الراحل (عبدالعزيز آل سعود) رحمه الله الذي كان يمنح مدينة الزبير وأهلها النجادة نظرة خاصة واعتبارات تنطوي على الديمومة في الوشائج، والاتصال الروحي عبر القنوات العائلية وصلة الرحم، التي بقيت حية نامية طيلة هذه السنين، بين المهاجرين وبين جذورهم، في قرى نجد خاصة، والمملكة العربية السعودية عامة. ووفق هذا التوجه الذي اختطه العاهل الراحل، المؤسس رحمه الله، سار الخلف الصالح، فقد تمثل المغفور له الملك (سعود بن عبدالعزيز)، توجهات والده المؤسس رحمه الله، وتوجيهات في رعايته السامية للنجادة من أهل الزبير، حيث عكس رحمه الله هذا التواصل والمودة لهم، بتشريف مدينتهم (الزبير) بزيارتين خاصتين، الأولى كانت في حياة والده الراحل رحمه الله، يوم أن كان ولياً للعهد، الأخرى (في عام 1957م) بعد أن تولى الأمر ملكاً على البلاد. وقد التقى فيهما بأهل المدينة من النجادة، ويومها لبست المدينة وأهلها حلة زاهية من الفرحة والابتهاج وخرج الجميع لاستقبال الملك القريب إلى نفوسهم الذي تربطهم به أواصر المنشأ والقربي والرحم، وكان العاهل الراحل رحمه الله، يستقبلهم ويرحب بهم، يتحبب إلى صغارهم ويرحب بكبارهم الذين رأوا فيه صورة موطنهم الأم ومدارج الآباء والأجداد، وشدتهم الذكرى، وبرهنوا لأنفسهم بأنهم أبناء نجد المخلصون لإصولهم ولمملكتهم السعودية، كما رأوا في زيارة العاهل الكريم رحمه الله لمدينتهم، تأكيداً لأواصر الصلة التاريخية، واعترافاً بأنهم إن بعدوا عن نجدهم ومملكتهم فإنهم يظلون ضمن دائرة التأثر والتأثير، وأن امتداد التواصل الاجتماعي والولائي، في جانبيه الشخصي والعام، يبقى ثابتاً، تعكسه المواقف وينفعل معه الإنسان. وهذا يفسر الحفاوة الكبيرة، والإندفاع الذاتي اللذين استقبلت بهما المدينة زائرها الكبير والمشاعر الطيبة والفرحة الطاغية التي تطفح بها وجوه أهلها ونفوسهم. وكنت يومها في مقتبل العمر، أذكر كيف كان الكبار والصغار يهرعون إلى الشوارع حيث يمر الموكب الكريم، وأذكر ذلك الفرح الحقيقي لأهلنا في مدينة الزبير، بمقدم الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز رحمه الله، وأذكر أنني رأيت جلالته وهو يبتسم ابتسامته العريضة، ويلوح بيده، ويرد على تحيات أهلنا الذين كانوا يحيونه بحماس، كنت أعتقد ساعتها، وما أزال، أن العاهل الراحل يبادل الجموع من المستقبلين نفس المشاعر وأنه كان بمثل فرحتهم وسعادتهم به. ومن مظاهر الاحتفاه الشعبي والفرح العام، انتشار الفرق الشعبية مثل (فرقة العرضة النجدية) وفرق الأهازيج الشعبية، ترحب بالزائر الكريم وتثني عليه بما هو أهله، كما ألقيت القصائد الشعرية في احتفال مهيب حضره جمع غفير من النجادة أهل مدينة الزبير في بناية (مدرسة طلحة، فكان يوماً مشهوداً وفرحاً شعبياً، ما يزال أهلونا هنا يذكرونه بفخر واعتزاز. رحم الله جلالة الملك الراحل (سعود بن عبدالعزيز) رحمة واسعة وأحسن إليه وعوضه الخير بجنات النعيم. وبعد أن تولى المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، ولاية أمر شعبه في المملكة، سار على ذات النهج والتوجيه اللذين وضعهما الملك المؤسس رحمه الله، وقد سار الملوك والأمراء من العائلة المالكة، على ذلك النهج الذي وضع لبناته العاهل الراحل الملك عبدالعزيز بن سعود تغمده الله بواسع رحمته آمين. وحينما تسلم الأمانة وولاية الأمر في المملكة العربية السعودية، العاهل المحبوب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالله بن عبدالعزيز أطال الله عمره وأعز ملكه، جد في متابعة أمور أهلها ومنحها كل وقته وجهده، فأرسي ما بدأه الراحل القائد الملك المؤسس رحمه الله، والملوك من بعده، راية التوحيد في هذا البلد الكريم، واتصل بشبعه من خلال زياراته التفقدية وجولاته الميدانية التي قام بها وشمل بها أكثر مناطق المملكة، يلتقي أهل هذه المناطق من شبعة الوفي، يطلع على أوضاعهم ويستمع بشكل مباشر إلى آرائهم ومطالبهم، مما تكونت لديه أعزه الله صورة جامعة واضحة، إضافة إلى ما يمتلكه من صور ومعلومات سابقة فهذه الزيارات الميدانية التفقدية، تزيد من حالة التواصل بين المواطنين بعضهم مع بعض، ومع ولي أمرهم، ومن شأن ذلك أيضاً أن يؤكد ارتباط المواطن بأرضه وبقيادته، ويؤكد ولاءه من جهة، ومن ثقته بنفسه وولاة أمره من جهة أخرى، وهذا حسب ما أرى، ما أراده مولانا خادم الحرمين الشريفين. تغمد الله تعالى برحمته الواسعة كل من غادرنا من الملوك من آل السعود الأوفياء إلى الدار الآخرة، وأحسن إليهم جميعاً. وأيد بنصره ورعايته خادم الحرمين الشريفين الملك الهمام عبدالله بن عبدالعزيز وأعز ملكه. وحفظ الله ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز من كل مكروه إنه سميع مجيب. ولهما، ولكل أصحاب السمو الملكي الأمراء من آل السعود، دعواتنا.. وولاؤنا.