سبق أن بينت لقرائي الأعزاء أن التربية، وكل ما له علاقة بها من قضايا سياسية، واقتصادية، واجتماعية، هي اهتمامي الأول، ومسرح آمالي، وهاجسي في ليلي ونهاري، وشاغل قلبي، ومحرك وجداني. حقاً.. عجيبة هذه التربية.. تتداخل مع كل شؤون الحياة، فهي ليست كما يتوهم البعض قاصرة على شؤون التعليم في المدارس وتربية الأبناء، بل إن مؤسسة التربية هي الحياة - كما عرفها أحد علماء التربية المشهورين - إذ يقول: نتربى من خلال وقائع الحياة، ونتعلم، ونستنتج. لذا فإن متابعتي للمسرح السياسي العالمي المعاصر، وما يموج فيه من أحداث، وتبدلات، وتحولات، إنما لأستنتج من تلك الوقائع دروساً تربوية. @@ @@ @@ وضمن ذلك الإطار كنت ممن تابعوا الأحداث المتلاحقة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بحكم أنها الدولة العظمى، المؤثرة على كل أقطار كوكبنا الأرضي، فلقد حدث في الأسابيع الماضية حدثان كبيران: الأزمة المالية العظمى - التي بدأت في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم انطلقت في زمن قصير إلى كل بلاد العالم مما يؤكد مقولتي: إن تأثير أحداث تلك البلاد لا يقتصر عليها محلياً، بل يتعداها عالمياً، وهذه الأزمة المالية لن أتطرق إليها بحكم كثرة من خاضوا فيها، وأني لا أحيط علماً بكل أبعادها. وأما الحدث الثاني فهو ما انتهت إليه الانتخابات الأمريكية الأخيرة - هذه النتائج أعطتني دروساً تربوية كثيرة، تفاعلت معها تفاعلاً نفسياً وعقلياً حاداً.. فلقد عشت في تلك البلاد ست سنوات متوالية - منذ ما يقرب من أربعين عاماً - تمكنت من خلالها من الإلمام بنظامها الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، وطابعها الأخلاقي والسلوك الثقافي، وتركيبها العرقي.. وعرفت شيئاً من تاريخها الماضي، بل إني قضيت بعض تخرجي بمدة طويلة أكثر من عام أستاذاً زائراً في واحدة من أبرز جامعاتها، ولا يمر عام دون زيارتها، وقضاء وقت ألتقي فيه بالكثير من معارفي في جامعات درست أو دَرست فيها. لقد كان فوز باراك حسين أوباما بمثابة تحول غير مسبوق؛ استخلصت منه عبراً كثيرة، وقيماً تربوية عظيمة.. من أبرزها: 1- تبدل مكانة الإنسان الأسود المتدنية بحكم التفرقة العنصرية الجائرة إلى الأفضل، ومعلوم أن أجداد هؤلاء السود اجتلبوا من القارة الأفريقية عبيداً للعمل في الحقول، والمصانع، ومع أنهم تحرروا من هذه العبودية في منتصف القرن التاسع عشر إلا أن هذه التفرقة العنصرية المقيتة بقيت طويلاً، وإن خفت في الزمن المعاصر.. لقد أدركت كفاح هذه الأقلية السوداء حينما كنت طالباً هناك، ذلك الكفاح المرير، بل والدامي في سبيل إحداث توازن اجتماعي، ولقد استمعت إلى خطب زعيمهم المشهور مارتن لوثر كنج، وأشهرها خطابه في العاصمة الأمريكية - واشنطن - مردداً أحلامه في انتهاء هذه العنصرية، ومطالباً ألا ينظر للإنسان على أساس لونه، أو جنسه، بل تسود الحياة قيم اجتماعية عادلة، يحكم فيها الإنسان برجاحة عقله، وسلامة رؤاه، وكم عطائه للإنسانية عامة، ولوطنه خاصة. @@ @@ @@ 2- كنت متابعاً منذ البداية للرئيس الفائز باراك حسين أوباما، وحين رشح نفسه منذ عامين لهذا المنصب لم آخذ ترشيحه للرئاسة مأخذ الجد، لأسباب منها: بقاء النزعة العنصرية، وصغر سنه، وقلة تجربته السياسية، لكني ذهلت بفوزه الساحق الذي أبكى الناس في كل الدنيا.. فرحاً.. وتأثراً.. لقد فاز فوزاً مبيناً؛ سيغير موازين القوى في وطنه أمريكا، وسيكون له تأثيره أيضاً على مستوى كل بلدان العالم، مع أني لا أظن أن شيئاً جاداً وكبيراً سيحصل فيما يخص القضايا العربية والإسلامية، وبالذات قضية فلسطين، والنزاع العربي الإسرائيلي. لقد سهرت طوال ليلة تلك الانتخابات متابعاً بترقب كل الأحداث التي اهتزت لها الدنيا، وكأنها كما قال بعض الإعلاميين (زلزال هائل لهذا الكون غير متوقع). @@ @@ @@ 3- ومن أهم الدروس التربوية التي أعطانا هذا الفوز الساحق للرئيس المنتخب أوباما هو حتمية ديناميكية الحياة، وتطور الأوضاع، وتعير الظروف؛ حيث لا يلبث سوء، ولا يدوم عناء، ولا يستمر حكم، ولا تستحكم عادة وممارسات غير حميدة؛ فها هو الأمريكي المنتمي لأصول أفريقية يعتلي كرسي رئاسة البيت الأبيض، فوزاً مكنه منه شعبه الواعي بانتخابات حرة نزيهة، بعد أن كان أمثاله يحرم عليهم حتى الجلوس في مقدمة كراسي الحافلات، أو تسلم وظيفة ذات قيمة.. أو مخالطة البيض في مدارسهم، أو مطاعمهم.. أو السكن في أحيائهم.. نعم.. إنها إرادة تغيير سياسات أثبتت عدم جدواها، ولذلك كان شعار الفائز (التغيير الذي نحتاج). وفي تلك الليلة الحاسمة حقاً.. شهدت مقابلة تلفازية مع أول مضيفة سوداً تعمل في إحدى شركات الطيران الأمر يكية، وكيف كافحت حتى حصلت على هذه الوظيفة المحرمة على أمثالها. إني لأوجه لكل الناس حديثاً مفاده أن كل ممارسات غير لائقة. أو أفكار غير سلمية، سوف تتبدل، وكل ما هو غير لائق سوف يزول.. فلا يأس مع الحياة، ولا بد أن نؤمن بحتمية التغيير إلى الأفضل.. بإذن الله. @@ @@ @@ 4- درس تربوي آخر مؤكد، هو أن الطموح من أقوى سمات الإنسان، لذا يجب ألا يترك أحد تحقيق طموحه لمعارضات الناس له، أو تقليلهم من شأنه.. أو أن يحد شيء من جهده في المثابرة والصبر والتحمل.. بل يبقى واثقاً من نفسه حتى يحقق طموحه.. ويصل إلى إرادته شريطة أن يكون طموحه مشروعاً.. وإرادته خيرة. @@ @@ @@ 5- وفي مسيرة تحقيق الطموح وإيجاد صورة إيجابية لدى الجمهور يجب أن يتغاضى عما قد يقال إنقاصاً لشأنه من الآخرين.. لقد كرر (أوباما) في حملته الانتخابية أنه لن يضيع وقتاً في الرد على إدعاءات الآخرين.. ولقد سمعته يقول: قولوا فيّ ما شئتم - دعونا نركز على برنامجنا لصالح بلدنا - ودعوا الناخبين يختاروا فيما بيننا الأقرب إلى نفوسهم من خلال ما نقدمه من رؤى.. ونطمح إلى تحقيقه من غايات. ولقد سمعت أقرب مستشاريه ومن أداروا حملته الانتخابية أنهم كانوا يضعفون في بعض المواقف - لكنهم يجدونه الشجاع الذي يذكي فيهم العزيمة، ويجدد فيهم القوة، ويعيدهم إلى الثقة مرة أخرى، وهذه - والله - صفة القائد الواثق من قدراته. 6- إن الولاياتالمتحدة الأمر يكية مع كثرة اختلافاتها مع الآخرين، ومع القضايا العربية، والإسلامية على وجه الخصوص ينبغي ألا ينسينا ذلك الخلاف أنها أمة تتيح الفرصة لكل إنسان طموح، وكم من علمائنا العرب، والمسلمين نبغوا وصاروا على رأس الهيئات العلمية والتعليمية هناك، وها هو الفوز الساحق لاعتلاء منصب الرئاسة الأمريكية يتحقق بفضل تلك الفرصة المتساوية للجميع.. كما قال الفائز في خطابه ليلة النصر. وفي بلادنا العربية دعونا نتصور طالباً أجنبياً جاء يطلب العلم في أحد بلادنا العربية، ويتزوج مواطنة منها، وينجب منها طفلاً - ثم يطلق زوجته - ويتركها مع ابنها ويعود لوطنة.. ليتزوجها أجنبي آخر، ويذهب بها مع ابنها ليتلقى ذلك الصغير تعليمه الأولي في بلد غريب هو موطن زوج أمه الثاني، ثم يعود الابن إلى حيث مولده.. ويكبر.. ويصير مسؤولاً أيما مسؤولية؟؟!!.. إن (باراك أوباما) لم يصبح مسؤولاً فحسب؛ بل صار رئيساً لأكبر دولة ذات أكبر قوة في العالم، وأترك للقارئ حق المقارنة وفق ما يرى حوله. @@ @@ @@ 7- ثم إني معجب بالدرس التربوي الأخلاقي الذي قدمه المنافس المهزوم (ماكين) بعد أن تبينت النتيجة، إذ لم يهاجم (أوباما) الفائز بل ذكر أنهما كانا متنافسين، وكانت رغبته الكبيرة في الفوز.. أما الآن وقد قال الشعب كلمته الحاسمة فإني أبارك له فوزه - وأثق أنه مستحق له.. بحكم جدارته، وقبول الناس لبرامجه المختلفة، وإني لأضع يدي في يده وهو رئيسي ورئيس كل الأمريكيين، وسوف نعمل معاً لخير بلادنا، كما كنت أعمل طيلة حياتي في خدمة وطني الذي نشترك أنا وإياه في حبه. ثم يأتي بعد ذلك خطاب المنتصر (أوباما) - فيثني على خصمه (ماكين)، بل يصفه بأنه المواطن الحق الذي خدم بلاده - وضحى من أجلها، ووصفه بكل الأوصاف الحميدة.. وقال أوباما: أنا الآن رئيس منتخب للولايات المتحدةالأمريكية سواء من هم جمهوريون ومن هم ديمقراطيون.. كلهم عندي سواء، وبهم تسير الحياة، ولن أستغني عن واحد منهم أبداً، (ومع تقديري لمن صوتوا معي فإني لن أتخلى عن الذين لم أحصل على شرف اختيارهم لي). ثم يذكر أنصاره بقدرة بلاده على تحقيق كل ما بدأ صعباً، مدللاً على ذلك بأمثلة كثيرة، ثم يواصل قائلاً: إن قوة أمريكا ليست في قوتها العسكرية، ولا في قدرتها الاقتصادية - إنما قوتها تكمن في صلابة مبادئها. @@ @@ @@ 8- ومما استنتجته تربوياً آخر، هو أن رجاحة العقل، وتوفر معطيات الحكمة أهم بكثير من غيرها من صفات الإنسان، مثل الحصول على الشهادات. أو تبوء المراكز والإدارات. @@ @@ @@ أيها الإخوة والأخوات العاملين في حقل التربية: لا بد لكم أن تستنتجوا من كل مواقف الحياة دورساً تربوية تعينكم على تنشئة الأبناء تنشئة صالحة تليق برسالة التربية. والاستنتاج من الوقائع أهم بكثير من الرجوع إلى النظريات التي قد تكون صائبة أو غير صائبة (والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها). @@ @@ @@ وأعود لأقول: لقد كان انبهاري بما حدث نتيجة للبون الشاسع الذي شاهدته هناك حين كنت طالباً بالجامعات الأمريكية من نظرة الأمريكي الدونية للملون، وبين ما حدث بهذا الفو ز الرئاسي، إذ صار الأمريكي الذي أصوله أفريقية يتربع على أعلى منصب في أمريكا. والسؤال: هل بهذا الفوز الذي تحقق لأوباما ستكون نهاية التفرقة العنصرية في أمريكا؟ إنه السؤال الذي يتداوله المفكرون الأمريكيون حالياً؛ لكن بالتأكيد أن الروح المعنوية لدى الأقلية قد ارتفعت، وكل من أجرى معه لقاء في هذا الشأن أجاب بما يفيد (ولم أكن أتوقع هذا الحدث في حياتي) فلعلنا نرى الحلم الذي نأمل قد تحقق، وزالت هذه الطبقية، واندثرت هذه النظرة الدونية. ويقول السود: آن لنا أن نقول لصغارنا: بإمكانكم أن يصبح أحدكم رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية. ومن أكثر من عبر عن ذلك التغيير المذهل هو القس (جيسي جاكسن) ببكائه الحار الذي لفت نظر الجميع، وركزت عليه كاميرات الإعلام كافة. @@ @@ @@ وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم أجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.