كانت حالة جدي أول ما دخل مع الباب غاية في التعب والحيرة والإرهاق وبعد السلام ودون كلام تناول جرعة الماء ومسح بعض قطرات العرق من جبهته التي أعمل الزمن فيها أثره وحفر فيها طرق خبراته، ثم جلس يستريح واضعاً رأسه كله في تجويف راحة يده مطرقا به مستندا عليها. ثم قال وهو يحدث بهمهمة المناجي لنفسه ولكل من حوله: جميع أسهم مزارعنا ومواردنا ومصادر الإنتاج عندنا في قريتنا في الحضيض، وحظ السعيد بل هو المحظوظ من يحصد اليوم وبالكوم أو يندمج بلا سوم والفرصة لا تأتي مرة أخرى. لكن كلنا معلقون ومن كل فلس محرومون خالية جيوبنا والبطون، والصيد في الأرض يمشي مشياً لا يطير لكن البنادق بلا رصاص، راح يوم كنا حراص ونمارس دور القناص، العيون البصيرة معها أيد قصيرة. قلت له: دع الأرزاق تمشي لأصحابها فممَ تخاف وممن ترجو؟ قال: الخوف اليوم من يد الغدر تدخل في هذا الفراغ الذي حدث ولا تنتظر ولا تتريث، تأتي من البعيد وقد علمنا لها كل تمهيد، لقد حصل الفراغ المهيأ والعرض بلا شيء لكل إنتاجنا سواء في شمس أو فيء، أخشى أن تستغل يد الغدر وضعنا وتشتري كل حصص مزارعنا بهذه الأسعار وبعد ما تستولي على كل شيء وترتفع الأسعار في المستقبل ترحل من بلدنا بالسيولة التي لها وليست لنا ولا لبلدنا ولا في محيطنا، تاركة لنا أسعاراً مرتفعة وسيولتهم تفر من بين أيدينا كما يفر الطائر من قفصه في غفلة صاحبه. صحيح أنها لم تحصل لكنها ستحصل، لاشك لاشك عندي أنها ستحصل. لقد تذكرت أيامنا الماضية، وتجاربنا السابقة وقارنت الحاضر بالماضي فوجدت مستجدات اليوم تختلف عن حوادث الأمس، فالتعطش الضارب بأطنابه في المحيط البعيد يُحدث في قلبي التوجس والوحشة والوجوم، والقلق رغم إيماني بالمقسوم، هل ما أقوله واضح ومفهوم؟ نعم لقد أخذنا الكثير من الخير والنصيب في وقت مضى يوم الارتفاع وصار لنا كل شيء في مزارعنا ومصادر إنتاجنا، لكن هبط سعرها وتعلقنا فوق قدرتنا على النزول لا نبيع فنخسر ولا نقوى ونصبر، وصار منظر الحرمان هو شاهد اليوم، ننتظر أن تعود الموجة سالمة، لكن على شرط أن تعود بسيولة من عندنا ومن بلدنا وإلا تربصت بنا يد لا نريدها، هي يد الانتهاز ويد الغدر من بلدان ترقب ما نحن فيه خاصة وأن عوامل الجذب واضحة. قلت وهل من حل في نظرك؟ قال نعم الحل في دخول قوة من عندنا قبل دخول غيرها فلا تدع شيئا للغريب ولا تبقي شيئا يسمى فراغ النصيب فتشغله هي، تقولون عنه الصندوق أو صانع السوق فهذا يمنع الاعتداء والبوق. يجفف الفائض ويجفف الدموع معها ويبقي كل الحصاد هنا فلا يرحل، صندوقنا في قريتنا يفترض أن يولد في هذه الظروف ما دام لم يولد من قبل. تركته وهو يقول: نعم سأذهب إلى المسؤول وأقول وأقول ثم أقول: خذوا ما عجزنا عن أخذه واجمعوه فأنتم تقدرون قبل أن تمتد إليه يد الغدر. فيكون هو الدرس الأخير والمسمار في نعش السوق فإلى القبر يطير.