لا أجدُ مفراً من القول ب (تعددت الأسباب والموت واحد) أمام ما نشهده من تراجعات حادةٍ للسوق المالية السعودية منذ مطلع العام الجاري، زادت وطأتها مع مطلع سبتمبر الماضي، إلى أن وصلتء خسائره التراكمية إلى نحو 49في المائة مقارنةً بأعلى قيمة وصل إليها المؤشر العام في 12يناير 2008، فيما تجاوزت 70في المائة مقارنةً بقيمته الأعلى في 25فبراير 2006.أما في جانب السجل التاريخي للخسائر بلغة (الريال)؛ فقد وصلت الخسائر الرأسمالية التي لحقت بالسوق منذ مطلع العام (باستبعاد الإدراجات الجديدة خلال العام) إلى أكثر من 845مليار ريال! ليتجاوز إجمالي الخسائر الرأسمالية التراكمية التي لحقت بالسوق التي تعرضت لصدمة 26فبراير 2006( 86شركة مساهمة) حتى إغلاق أمس الثلاثاء إلى 2.1تريليون ريال، ولتصل قيمتها السوقية أخيراً إلى 965مليار ريال فقط! وبإضافة جميع الاكتتابات التي أُدرجت على السوق المالية بعد تاريخ الانهيار ( 48شركة مساهمة جديدة) التي تصل قيمتها السوقية الأخيرة إلى نحو 288.5مليار ريال. الملفت في الأمر مؤخراً أن أول يومين من تداولات أكتوبر الجاري فاقت خسائرهما الرأسمالية 255مليار ريال!! أردتُ أن أفصّل هنا سجل ما مضى لنفهم جيداً وضع السوق اليوم، ولكي نصل قدر الإمكان إلى خطوط المستقبل الذي تتمرّغ بداياته ونهاياته في وحلِ عدم التفاؤل، أو لنقلها صراحةً وحل التشاؤم. السؤال المُلح وفقاً لما تقدّم خاصةً ما جرى خلال اليومين الماضيين؛ هل السوق المالية المحلية بمواجهة أزمة حقيقية؟! وإذا كانت كذلك، فماذا كان يجب اتخاذه من قبل الجهات المعنية (مؤسسة النقد، هيئة السوق المالية) للحدِّ من الآثار السلبية البالغة الحدّة، بصورةٍ فاقت حتى ما لحق بالأسواق المالية التي اشتعلت من وسط خاصرتها الأزمة المالية العالمية! كتبتُ في أكثر من مرّة أن أجهزتنا الاقتصادية والمالية قد فشلت -بكل أسف- في التعامل مع حالات الأزمات التي تكررت على تعاملات السوق المالية السعودية! ما يؤكد أن مفهوم (إدارة الأزمة) غائبٌ تماماً عن أبجديات عمل تلك الجهات ممثلة في هيئة السوق المالية ومؤسسة النقد. وعلى الرغم من سطحية معظم التفسيرات التي ربطت ما حدث في السوق السعودية من تراجعتٍ حادة بما جرى ويجري على الساحة المالية الدولية، دون التغلغل في حقائق رقمية صريحة، إلا أن ما حدث للسوق المالية السعودية لا يمكن استيعابه وفق تلك الصياغة التبريرية الهشّة! كما لا يمكن فهم هذا الجمود والصمت المحيط بالأجهزة المعنية بالأزمة المحلية المشتعلة نيرانها في سوقنا.. وأرى المشهد الذي حدث في يناير 2008يتكرر اليوم، مكرراً التساؤل ذاته الذي طرح جسده أمامنا حينها؛ كم هو كبيرٌ الفارق بين موقف أجهزتنا المالية والاقتصادية وبين تلك الإجراءات والمواقف التي تم اتخاذها على امتداد أسواق المال حول العالم، حينما شهدت صدور تصريحاتٍ من أجهزتها المالية تحلّت بالكثير من الشجاعة والمسئولية، بل إن بعضها وصلت به الجرأة إلى حدِّ إيقاف تعاملات السوق كما حدث في البورصتين الهندية والتركية (يناير 2008)، والبورصة الروسية (أكتوبر 2008). المؤكد في جميع الحالات بغض النظر عن الأسباب الفعلية وراء الانهيار الأخير، أن الحالة العسرة التي مرّت بها السوق المحلية، وما سيليها من تذبذباتٍ حادة لا يبدو لها في الأفق الزمني المنظور نهاياتٌ واضحة المعالم. أؤكد هنا مرةً أخرى، أن الوقوف على الأسباب الفعلية وراء التراجع الحاد الأخير، سيمكننا من تقييم الموقف العصيب الذي تمر به السوق المحلية بصورةٍ أكثر مسئولية وشفافية، وهو ما سيغير دون أدنى شك معالم الأرضية التي تمَّ أثرها بناء الموقف الراهن من الجهات التنظيمية والتنفيذية القائمة على السوق المالية. وأبدأ من نصوص نظام السوق المالية ولائحة سلوكيات السوق وقواعد التسجيل والإدراج، حيث نصّت المادة الخامسة أن هيئة السوق المالية في الفقرة (أ) هي الجهة المسؤولة عن إصدار اللوائح والقواعد والتعليمات، وتطبيق أحكام هذا النظام، يهمنا هنا معرفة ما يجب على الهيئة القيام به لأجل تحقيق هذا الهدف ممثلاً في الفقرات (4، 5، 6) التي نصّت على: (4) حماية المواطنين والمستثمرين في الأوراق المالية من الممارسات غير العادلة، أو غير السليمة، أو التي تنطوي على احتيال، أو غش، أو تدليس، أو تلاعب. (5) العمل على تحقيق العدالة والكفاية والشفافية في معاملات الأوراق المالية. (6) تنظيم ومراقبة الإفصاح الكامل عن المعلومات المتعلقة بالأوراق المالية، والجهات المصدرة لها، وتعامل الأشخاص المطلعين وكبار المساهمين والمستثمرين فيها، وتحديد وتوفير المعلومات التي يجب على المشاركين في السوق الإفصاح عنها لحاملي الأسهم والجمهور. نأتي إلى المادة السادسة من النظام التي نصّت في الفقرة (أ) على أن هيئة السوق المالية تتولى صلاحية تنفيذ المهام المنصوص عليها في هذا النظام، وكذلك اللوائح والقواعد والتعليمات الصادرة بمقتضاه، يدخل فيها الفقرة (5) التي نصّت بوضوح على: تعليق نشاط السوق لمدة لا تزيد على يوم واحد، ويتعين في حالات الضرورة التي ترى معها الهيئة أو وزير المالية تعليق نشاط السوق لمدة تزيد على يوم واحد أن يصدر بالموافقة على ذلك قرار من وزير المالية، وفي الفقرة (7) منع أي أوراق مالية في السوق أو تعليق إصدارها، أو تداولها إذا رأت الهيئة ضرورة ذلك. لا أشك في أن الأغلبية قد قرأ وعرف هذه الفقرات الهامة جداً من النظام، كما لا أشك أبداً في أننا افتقدناها تماماً في خضم التداعيات الأخيرة التي مرّت بها السوق المالية، غير أن الملفت هنا فيما تقدّم هو العبارة التالية (حالات الضرورة) التي بناءً عليها شهدنا مبادرة الجهات التنظيمية في أسواق الشرق والغرب باتخاذ كافّة التدابير اللازمة لبث الثقة والاستقرار في جميع أنحاء اقتصاداتها وأسواقها المالية؛ سواء من خلال التصريحات والتعهدات الواضحة والعاجلة، أو عن طريق إيقاف وتعليق تعاملات أسواقها، أو بكليهما معاً! أتساءل هنا؛ لماذا تشابهت أسبابنا مع أسبابهم، فيما اختلفت مواقفنا وحلولنا مع مواقفهم وحلولهم؟! لا أخالُ أنني آت أو غيري من المتعاملين في السوق بجديد إذا طالبنا بما نصَّ عليه نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية؛ كيف ذلك؟ نحن أمام أمرين أو خيارين جميعهما في متناول يد هيئة السوق المالية؛ الأول: إيقاف تعاملات السوق بأكمله، أو على أقل تقدير تعليق التعامل على الأسهم الثقيلة الوزن التي أشعلت شرارة الانهيار الأخير، وهذا موضح صراحةً وبوضوح في قواعد التسجيل والإدراج في كل من المادة الحادية والعشرين (صلاحية تعليق أو إلغاء الإدراج). الخيار الثاني: أن تبادر الهيئة بالظهور إعلامياً والتصريح بحقيقة ما يجري إن كان هناك فعلاً أسباب، أو أن تطمئن المتعاملين في السوق؛ موضحةً لهم أن لا سبب مقنعا وراء هذا الهلع والخوف الذي عمَّ أرجاء السوق. قد يكون الحديث فيما فات أجهزتنا إدراكه ووجوب القيام به أمراً غير مجدٍ الآن، والأهم الآن هو إحضار الحل دون تأخير لمحاصرة دائرة الكارثة، والحدِّ من اتساعها إلى حدودٍ لا يعلم عواقبها إلا الله وحده! أعتقد أن جزءا من الحل المتاح أمامنا اليوم، يتمثل فيما يلي: 1أن تبدأ هيئة السوق المالية، أو السوق المالية السعودية (تداول) بالتصريح المستمر المدعوم بحقائق رقمية حول ما يجري في السوق المالية. 2أن يتم تعليق نشاط السوق، أو حتى إبطال بعض صفقاته متى ما دعت الضرورة، وقد كفل النظام هذا الحق للهيئة، فما العائق أمام الاعتماد عليه، هذا عدا كونه واحداً من أهم الخطوط الدفاعية عم مكاسب السوق والاقتصاد. 3أن يصدر من هيئة السوق المالية ما يطمئن عموم المتعاملين حول ما كان يؤرقهم سواء ما يتعلق بموضوع الاكتتابات أو أي من القرارات والإجراءات التي غذّت بصورةٍ مؤلمة وعنيفة دائرة الشائعات فوق رؤوس المتعاملين. 4التفكير ببعض الحلول الداعمة للسيولة في السوق كالسماح لبعض الشركات المساهمة المتوافر لديها سيولة كافية، وتتمتع بأدائها التشغيلي المتين بشراء نسب محددة من أسهمها. أو أن تقوم الحكومة (وزارة المالية) بضخ أموال في الصناديق الاستثمارية المدارة من الشركات الاستثمارية المرخصة، توطد بها أقدام الاستثمار المؤسساتي في السوق المحلية، الذي لا يتجاوز اليوم أكثر من 1.9في المائة من حجم السوق. 5أن تتراجع مؤسسة النقد العربي السعودي عن سياستها المتشددة مؤخراً (منذ مطلع نوفمبر 2007) في محاصرة السيولة، لتخفض تدريجياً معدلات الاحتياطيات الإلزامية على الودائع البنكية (الوديعة النظامية التي تحتفظ بها البنوك السعودية لديها)، وفقاً للتطورات القادمة والمحتملة، التي وصلت مع مطلع مايو 2008إلى 13في المائة من مجموع الودائع تحت الطلب، و 4في المائة من مجموع الودائع الادخارية والآجلة، مُذكراً أنها كانت قبل مطلع نوفمبر 2007لا تتجاوز 7في المائة، و 2في المائة حسب الترتيب أعلاه. @عضو جمعية الاقتصاد السعودية