ليس من باب المجاملة الاجتماعية، أو العلاقات الأخوية أن أجزل الشكر لمركز حمد الجاسر الثقافي، وقد أصدر الكتاب المتميز الجامع، والذي عن الحقيقية يدافع، كتاب تدريس المقررات التعليمية بغير العربية في مدارس التعليم العام. وهذا الإصدار هو واحد من كثير من إنجازات هذا المركز الثقافي، ذي المكانة الرفيعة بين المجامع الثقافية، والنوادي الأدبية، واللقاءات الاجتماعية العلمية، لأن من يطلع على ثمار (ندوة الخميس) التي تعقد منذ زمن في هذا المركز يجد فريد تميزه ووافر عطاءاته، وزحام لقاءاته. @@@ (دارة العرب) أو مركز حمد الجاسر كصاحبه، والمسمى باسمه.. مثله.. تألقاً في المعرفة.. شمولاً في الثقافة، تنوعاً في الفكر، والأدب، والاجتماع، والحرية والنزاهة في معالجة كل ما يعن له من قضايا، خاصة وأن رجاله ورواده هم من الصفوة المتميزة في وطننا الغالي، وهم في غالبيتهم من بين أقطاب الأدب، والشعر، والتأليف، والمناصب القيادية والإدارية في عصرنا. @@@ فتحية لهذا العكاظ العصري في بلادنا الواعية المتطورة، وأخص بالشكر من قاموا على اختيار مادة كتاب (تدريس المقررات التعليمية بغير العربية في مدارس التعليم العام) وترتيبها، والجمع بين المختلفين في آرائهم.. والمحايدين في أقوالهم.. مع عدم تعصب لأحد.. أو تقصير في حق آخر. وأيضاً الشكر لهم على تضمينهم لهذا الكتاب المقالات الصحفية التي كتبت عما يتصل بموضوع تدريس المقررات التعليمية في مدارسنا بغير اللغة العربية. وكذلك طيب الثناء على إخراج الكتاب، وجميل طباعته، وجودة تقديمه. أما فيما يخص هذه القضية الشائكة التي هي موضوع الكتاب: فإن ما جاء في مقدمته شرحاً لها ويعتبر توضيحاً لشتى الآراء، وبياناً لمختلف المواقف. والكتاب احتفالية حقيقية، جمعت آراء ودفاعات ستة عشر من المعارضين للتعليم بلغة غير لغتنا العبقرية، وتسعة مؤيدين، وستة من التوفيقيين، ثم كانت الخاتمة المسك في كلمة مدير اللقاء معالي أخي الدكتور أحمد بن محمد الضبيب. @@@ وإني قبل الحديث عن هذه القضية أذكر بالرضا والامتنان ما جاء في المحاضرة التي ألقاها زميلنا الكريم الدكتور حمزة المزيني، والذي وضع النقاط على الحروف في قوله الواقعي وهو يتحدث عن كون لغة ما أصلح من أخرى في التعليم، فقال ما أُورده هنا شاهد صدق على الحقيقة، قال: "لا أريد أن أورد أمثلة كثيرة، ولهذا سوف أكتفي بمثالين، أحدهما من الهند التي تعلم باللغة الإنجليزية، وهي تعد الآن من الدول التي تتقدم سريعاً في مجال العلوم والتقنية، ولها إنجازاتها في أدق العلوم، والمثال الآخر من الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تعد مختبراً لغوياً حياً يستطيع الإنسان أن يجد فيه دليلاً على أن هناك من المهاجرين، ومن الطلاب المبتعثين من يأتون وهم لا يتقنون اللغة الإنجليزية إتقاناً تاماً ثم يتميزون، ومن هؤلاء مثلاً عالم الفيزياء المعروف الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزتي الملك فيصل، ونوبل، وفاروق الباز المتميز الذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وغيرهما آلاف من ملايين العرب وغير العرب. لذلك فإن اللغة بنفسها ليست شرطاً من شروط التقدم العلمي.. فالتقدم العلمي له اشتراطاته ومتطلباته المستقلة، وعليه فإن ترك الإنسان لغته الأصلية إلى لغة أخرى تحت هذا الظن وهم". @@@ وإذا كان من إشارة إلى ما جاء من اختيارهم لما ناديت به من الحفاظ على اللغة العربية، والحرص عليها في مناهجنا وأحاديثي في مقالاتي المتعددة (ما بين صفحات 37- 94) في ذلك الكتاب، وما هو وارد فيها من آراء فإني لأشكر لهم هذا، حيث فيه ما أريده من فكر وتوجه نحو لغتنا العربية، وضرورة تعليم اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية لغة ثانية، وليست لغة تعليم - بمعنى أن نتعلمها لا أن نتعلم موادنا الدراسية بها، ومما يساعد على تعلمها هو البدء المبكر بها. @@@ كنت أتمنى أن يكون ضمن ما جاء في الكتاب نص التعميم الذي صدر من وزارة التربية والتعليم والذي يقضي بالسماح للمدارس الأهلية التي تقبل أبناء المواطنين السعوديين لاختيار مناهج غير التي تطبقها المدارس الحكومية، وبلغات غير العربية، باستثناء مواد التربية الدينية واللغة العربية، فلو أن نص هذا القرار ذكر في الكتاب لأزال كثيراً من اللبس حول هذا الأمر. @@@ وأمر آخر: أنا لست خائفاً على اللغة العربية، فالله حافظها بحفظه كتابه العزيز (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (بلسان عربي مبين) ولكني مشفق على من يتلقى ثقافته وتعليمه بلغة غير لغته؛ إذ إن ذلك يسبب له إشكالات كثيرة أفضت فيها بإسهاب في مقالاتي التي جرى التنويه عنها، بل إن البعد عن اللغة العربية بُعد عن كثير من القيم الأصيلة.. فقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة"، ويقول أحد علماء اللغة الغربيين المعاصرين: "بما أن جزءاً كبيراً من تفكيرنا يهتم بالألفاظ والتدريب على الاستعمال الصحيح للغة فإن توسيع دائرة المفردات واستعمالها في كل أنواع المعرفة وضروبها هو أهم أنماط التدريب على التفكير الصحيح، ولن يتمكن أي فرد من الإبداع في مجال تخصصه أيا كان إلا بلغته الأم". @@@ وحين تناولت هذا الموضوع فإني لم أتناوله من جانب عاطفي كما يظن بعض إخواني وأصدقائي، وإنما تناولته من عدة زوايا علمية، وتربوية، وثقافية، ولسانية، وقانونية، ووطنية. @@@ وأحمد الله تعالى أن وفق وزارة التربية والتعليم فأوقفت منح الترخيص لمزيد من هذه المدارس التي تعلم مناهجها بغير العربية - حسب ما أفادني الزميل العزيز معالي أخي الفاضل الدكتور سعيد بن محمد المليص نائب وزير التربية والتعليم للبنين - كما أحمده سبحانه وتعالى أن وفق مؤسسة الملك فيصل الخيرية التي تتبنى مدارسها (مدارس الملك فيصل) منهج (البكالوريا الدولية) أن حولت تلك المناهج إلى اللغة العربية. فلقد كانت فرحتي شديدة حين هاتفني صاحب السمو الأمير بندر بن سعود بن خالد أمين عام المؤسسة قائلاً: "أبشر، فقد اتفقنا مع مؤسسة علمية لترجمة تلك المناهج إلى اللغة العربية فجمعنا بذلك بين الحسنيين: المواد الدراسية للبكالوريا الدولية لكن باللغة العربية العريقة". @@@ وقد ذكر لي سمو الأمير بندر التكاليف المالية الكبيرة لتنفيذ هذا الأمر، ولا يستغرب ذلك من مؤسسة الملك فيصل الخيرية، فهذا دأبها في كل عمل وطني كبير. وهنا سارعت بالحديث هاتفياً مع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس المؤسسة مهنئاً وشاكراً على هذا الإنجاز العظيم. @@@ ولست أريد الانتقال هنا إلى الجانب الآخر وهو قضية اللغة والهوية، وما أكده قول كثير من أهل الرأي والفكر من أن الحفاظ على اللغة القومية ليس أمراً مطلوباً فحسب، بل إنه جزء من الشخصية التي لا يمكن التنازل عنها.. كما جاء ذلك على لسان عالم اللسانيات الأمريكي المشهور نعوم تشومسكي. لكن الذي أريد العودة إليه هو التحية الصادقة لمركز حمد الجاسر الثقافي، والذي هو أحد رموز الأصالة العربية والوطنية فكراً وعطاءً، داعياً لهم المزيد من السداد والإنجازات. @@@ وفقنا الله جميعاً الى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.