لقد أخطأت استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات "كاديما"، حيث أظهرت الاستطلاعات أن ليفني ستفوز بأغلبية ساحقة. غير أن فوزها يمكن وصفه ب "فوز بالقوة" . ولكن الأغلبية تبقى أغلبية. لقد تم انتخاب تسيبي ليفني. كيف يعبر هذا الأمر عن الجمهور الإسرائيلي؟ في البداية، إنه انتصار لشخص يفتقر إلى الخلفية "الأمنية" على شخص ذي خلفية "أمنية" تامة. ونزولا عند استشارة مستشاره الأمريكي اليميني، ستانلي غرينبرغ، شدد موفاز على كلمة "الأمن" في كل مناسبة، وكاد يفعل ذلك في كل جملة يتفوه بها تقريبا. لقد صنع برنامج "لندن وكيرشنباوم" من هذا الموضوع حكاية ساخرة. الأمن ثم الأمن ثم الأمن ثم الأمن. وهذا لم يكن كافيا. الجنرال، اللواء، رئيس الأركان ووزير الدفاع، قد هُزم أمام امرأة ليس لديها أي ماض عسكري (على الرغم من أنها خدمت 15سنة في الموساد). هذا لا يعني أن تسيبي ليفني لن تظهر كمن يصبو إلى الحروب، مثل إليزابيث الأولى، مثل كترينا الكبيرة، مثل مرغريت تاتشر، مثل إنديرا غاندي. ولكن الوقائع هي الوقائع: لقد فضل جمهور منتخبي "كاديما" غير الجنرال على الجنرال. إضافة إلى ذلك "كاديما" هو حزب من أحزاب المركز بكل ما في الكلمة من معنى. إنه مركز المركز. أعضاؤه لا يتحمسون لأي شيء، لا من اليمين ولا من اليسار. ليس لديهم آراء قاطعة، لا لهذا الاتجاه ولا لذاك. لذلك يمكن النظر إلى انتخابهم كتجسيد للمزاج الوطني العام. لقد أظهر موفاز نفسه، ليس كسيد أمن فحسب، بل كذلك كرجل يمين حقيقي، شخص يعارض السلام مع سوريا والسلام مع الفلسطينيين على حد سواء، زعيم ينوي إقامة ائتلاف مع اليمين، حتى مع اليمين المتطرف. لقد كان الممثل المعلن للحرب التي لا نهاية لها. أما تسيبي ليفني فقد قدمت نفسها على أنها مرشحة تتطلع إلى السلام، تلك المرأة التي تدير المفاوضات مع الفلسطينيين، التي تفضل الدبلوماسية على الحرب، والتي تشير بالبنان إلى طريق لإنهاء الصراع. قد يكون هذا نوعا من الرياء، خداع النظر. ولم يكن هناك فرق حقيقي بين الاثنين. ولكن حتى إذا كان الأمر كذلك، فهذه ليست هي الحقيقة الهامة. الحقيقة الهامة هي أن جمهور منتخبي "كاديما"، وهو الجمهور الأكثر مركزية في الدولة، قد منح نصرا - على الرغم من أنه نصر بأقلية قليلة - لمرشحة يُزعم أنها تمثل السلام. لقد سبق أن قال الشاعر الايرلندي، وليام بتلر يتس، في قصيدته "المجيء الثاني" التي يصف فيها الفوضى، أنه "لا يمكن للمركز أن يتمتع بالبقاء". هذا التشبيه مأخوذ من التاريخ العسكري. كانت الجيوش في المعارك الكلاسيكية في العصور الغابرة تتأهب بحيث تكون القوة الرئيسية مركّزة في المركز، بينما تقوم القوات الثانوية بحماية الأطراف. كلما تمكن المركز من البقاء، كلما كان كل شيء على ما يرام. إن المركز في إسرائيل، في أيامنا هذه، ما زال قادرا على البقاء. لقد انتخب الجمهور سيدة المركز. يمكن وصف ذلك بشكل آخر أيضا: القوى موزعة، في إسرائيل العام 2008، بشكل متساو بين "اليمين" و"اليسار"، وقد انتصر "اليسار" في هذه المرة بأغلبية ضئيلة. أتذكر الانتخابات التي أجريت قبل تسع سنوات. ففي شهر مايو من العام 1999أحرز إيهود باراك نصرا هائلا على بنيامين نتنياهو: 56.08% مقابل 43.92%، وهو فارق من 388.546صوتا. ببساطة، قد سئم الجمهور بنيامين نتنياهو. كان الرد الجماهيري يدعو إلى العجب. كان الإحساس العام في معسكر السلام أننا قد خرجنا من العبودية إلى الحرية، من عهد من الفشل والفساد إلى عهد من السلام والرفاهية. من دون أية دعوة علانية، من دون أن يبادر أي شخص إلى ذلك، هرعت الجماهير إلى ميدان رابين في تل أبيب، وهو المكان الذي اغتيل فيه رئيس حكومة قبل أربع سنوات من ذلك الوقت. لقد كنت واحدا منهم. في ذلك الوقت سادت حالة من الفرح العارم. أصيب الناس بدوار فرقصوا واحتضن بعضهم البعض، وتبادلوا القبل. مثل هذا الجو من النشوة ساد في ميدان تل أبيب في المرة الأخيرة حين قررت هيئة الأممالمتحدة إقامة دولة يهودية ودولة عربية. لقد عايشت مثل هذا السيناريو أيضا في ابريل من العام 1948، حين شاركت في القوة التي أحضرت قافلة الإمدادات الهائلة إلى القدسالغربية المحاصرة والجائعة. شهدت مثل هذا الجو في الأفلام التي تناولت اليوم الذي دخل فيه شارل دي غول إلى باريس المحررة. لقد وعد باراك بأن يكون رابين الثاني، وحتى بأكثر من ذلك. لقد وعد بإحلال السلام مع الفلسطينيين خلال عدة أشهر. كان يبدو المستقبل ورديا في الأفق، "صباح يوم جديد". بعد سنة ونصف، لم يبق أي من هذه الوعود. بطل السلام، إيهود باراك، قادنا إلى اكبر كارثة في تاريخ الطريق الى السلام في البلاد. لقد عاد من مؤتمر كامب ديفيد، الذي تم عقده بمبادرة منه، وهو يردد كلاماً تحول إلى قول مأثور "قلبت كل حجر على طريق السلام / اقترحت على الفلسطينيين شروطا سخية لم يسبق لها مثيل / عرفات رفض كل شيء / ليس لدينا شريك للسلام". بعشرين كلمة، هدم باراك معسكر السلام وبلور لدى الجمهور الإسرائيلي اعتقادا لم ينجح حتى نتنياهو في خلق مثل هذا الاعتقاد، ليس ثمة أي احتمال للسلام، وأنه قد كتب علينا أن نواصل النزاع إلى أبد الآبدين. لذلك لم يحرك أي شخص ساكنا بعد انتصار ليفني. لم تتدفق الجماهير إلى الميدان، لم ترقص ولم تحتضن بعضها البعض - وليس لأن هذه الانتخابات لم تكن سوى انتخابات داخلية في الحزب. تراوح رد الفعل العام ما بين تنفس الصعداء وهز الكتف. على الرغم من ذلك، ما الذي يجب أن نتوقعه؟ لقد تبادلنا النكات لدينا حول "تسيبي والتوقعات". ولكن لا أحد يعلم أي رئيسة حكومة ستكون. قوية أم ضعيفة. مثابرة أم تخضع أمام الضغوط. صارمة أم متهاونة. تصبو إلى الحرب أم تصبو إلى السلام. يمكن الإشارة فقط إلى الخلفية التي جاءت منها، . عشية الانتخابات، في إطار إحدى المقابلات السخيفة المحببة إلى قلوب وسائل الإعلام، طرح عليها السؤال من هو بطلها. كانت إجابتها، زئيف جبوتنسكي. كانت هذه الإجابة هي الإجابة المتوقعة. لقد ترعرعت تسيبي ليفني في بيت من أنصار التعديلية. إنها تعديلية بإصدار 2008.ما معنى هذا الأمر. والدها، إيتان، من مواليد مدينة غرودنو (التي كانت تتبع في مختلف الفترات لبولندا، لروسيا ولروسيا البيضاء) قدم إلى البلاد في سن السادسة وانضم إلى المنظمة العسكرية الوطنية "إتسل" في عام 1938(وهو العام الذي انضممت فيه أنا إلى المنظمة أيضا) لقد كان عمره 19سنة في ذلك الوقت، وكانت حياته كلها منذ ذلك الحين متأثرة بجبوتنسكي وتعاليمه. لم يكن إيتان ليفني، على حد معرفتي به، شخصا لامعا أو استثنائيا، بل إنسان رصين، أمين. شخص يمكن الاعتماد عليه. لقد عمل في" الإتسل" كرجل العمليات الميدانية، قاد عمليات جريئة، ومن بينها الهجوم الكبير على سجن عكا، الذي كان مسجونا فيه. كعضو كنيست من حركة حيروت، لم يكن بارزا وقد أيد مناحيم بيغين من دون أن ينحرف يمينا أو يسارا. لكي نحاول فهم تسيبي، من المستحسن أن نعود إلى جبوتنسكي. كان أعداؤه الكثيرون يصفونه في أكثر من مرة بأنه فاشي، ولكن هذا الوصف كان وصفا كاذبا. لقد كان عنصريا حسب قوالب القرن التاسع عشر، الذي ولد فيه. لقد عاش بضع سنوات في شبابه في إيطاليا، وكان أبطاله هم زعماء إيطاليا الوطنية، المفكر جوزيف ماتسيني، والمقاتل جوزيف غريبالدي. لقد آمن بالجمهورية أحادية العنصر. لقد تطلع جبوتنسكي، بطبيعة الحال، إلى أرض إسرائيل الكبرى. مجرد الاسم الذي أطلقه على حزبه في عشرينات القرن المنصرم كان يشهد على ذلك: لقد طالب "بتعديل" قرار البريطانيين في الفصل بين أرض إسرائيل الغربية وبين شرقي الأردن. لقد أنشدت تسيبي ليفني هي أيضا في حداثتها قصيدته المشهورة جدا: "للأردن ضفتان - هذه لنا، وهذه أيضا". ولكن جبوتنسكي كان لبراليا حقيقيا وديمقراطيا حقيقيا. لقد اعتلى الحلبة السياسية للمرة الأولى حين قام بوضع "خطة هلسنكي"، التي طالبت بمنح اليهود وسائر الأقليات في روسيا القيصرية حقوق الإنسان والحقوق الوطنية. إن الشخص الذي ترعرع على هذه القيم، يقف الآن أمام خيار صعب جدا. هؤلاء التعديليون يطلبون ثلاثة أمور، دولة يهودية، دولة تمتد على أرض إسرائيل الكبرى ودولة ديمقراطية. هذا أكثر من الممكن. إن الشخص التعديلي الحكيم يجب أن يختار بين اثنين من الثلاثة: دولة يهودية وديمقراطية لا تمتد على أرض إسرائيل الكبرى كلها، دولة يهودية على جميع أنحاء أرض إسرائيل الكبرى ولكنها ليست ديمقراطية، أو دولة ديمقراطية تمتد على أرض إسرائيل الكبرى ولكنها ليست يهودية. هذا الأمر لم يتغير منذ 41سنة. تسيبي ليفني هي تعديليه نزيهة، قد أعلنت اختيارها: دولة يهودية وديمقراطية، لا تمتد على كل أرض إسرائيل الكبرى. (ولن نخوض هنا في السؤال فيما إذا كانت الدولة "اليهودية" يمكن أن تكون دولة ديمقراطية أيضا). نحن نميز في العبرية المعاصرة بين "الوطنية" و"العنصرية" إن النظرة الوطنية تعترف بأهمية القاعدة الوطنية في المجتمع الإنساني المعاصر، ولذلك فهي تحترم وتقدر وطنيات الشعوب الأخرى أيضا. أما النظرة العنصرية فتقول: "نحن لا غير"، قوميتي على حساب كل القوميات الأخرى. يبدو أن تسيبي، مثلها مثل جبوتنسكي بطلها، تنادي بالنظرة الوطنية . ومن هنا يأتي تشديدها على "دولتان وطنيتان لشعبين". إنها تتحدث عن دولة وطنية يهودية، وعلى هذا المذبح هي مستعدة لتقريب أرض إسرائيل الكبرى. هذه ليست قاعدة مثالية للسلام (ماذا ستكون مكانة المواطنين العرب في دولة وطنية يهودية؟)، ولكن هذه قاعدة واقعية. إذا كانت لديها العزيمة لتحقيق أفكارها، فمن الممكن أن تأتي بالسلام. ردا على الانتخاب، كتب غدعون ليفي أن هناك أملا في القلب، ولكن العقل لا يقبله. هذا رد فعل معقول. هناك رغبة في القراءة: طيري طيري يا عصفورة إلى الهدف مباشرة! بعد أن يتم انتخابك كرئيسة للحكومة، أسرعي، أقيمي ائتلافا مع قوى السلام، استغلي الأشهر الأولى لتوليك المنصب بهدف إحراز اتفاقية سلام مع الفلسطينيين، أعلني عن إجراء انتخابات جديدة واختبري نفسك واختبري الاتفاقية في اختبار الجمهور. وكما تقول ليفني ذاتها بلغتها المباشرة: "لا وقت للترهات!" هذا ما كان يجب على إيهود باراك أن يفعله في أواخر العام 2000، لكنه لم يجرؤ، ولذلك قضى على عالمه. هل ستحلق العصفورة إلى مثل هذه الفضاءات ؟ القلب يأمل. أما العقل فتساوره الشكوك. أوري افنيري كتلة السلام الإسرائيلية