إن ما بين انطلاق أول دولة للإسلام ذات صبغة إنسانية وبين وطننا الحالي: "وطن الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية" علاقة ثقافية وفكرية وروحية امتداد للأسس والمفاهيم الإنسانية التي وضعها رسول الهدى والرحمة عليه السلام من خلال 1429ه عام مضت هي حقبة من التاريخ الإنساني، بل هي التاريخ بنفسه والذي على ضوئه تشكلت شخصية المواطن السعودي بمكوناتها الإنسانية وأبعادها ومشاهدها الدينية والوطنية والاجتماعية التي أمدتها بثقافة إنسانية غزيرة ونضوج فكري تجاوزت بها ومن خلالها بكل اقتدار جميع المعوقات والمؤثرات السلبية ما كان منها قديما أو حديثا أو مفتعلا خصوصاً ما جاء بالأطر العصبية الممقوتة وبمسمياتها المختلفة (التعصب الفكري، الثقافي، الإقليمي، القبلي). وبناء عليه ستبقى الشخصية السعودية في اجتماع واعتصام واتحاد دائم للحفاظ على مقدرات ومكتسبات الأمة رغم كيد الكائدين وهي على علم بعظم المسؤولية من خلال مكوناتها وأبعادها آنفة الذكر ويكفيها فخراً أنها هي الوحيدة التي تعمل وتتعامل قولاً وفعلاً ومنهاجاً وفق أحكام الشريعة السمحة قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقال عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) وللحفاظ على القيادة الإنسانية قال عليه السلام: "الدين المعاملة". ولتلك الشخصية أسوة حسنة بإنسانية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين وبالتابعين والسلف الصالح وعلماء الأمة ومثقفيها. ومن الأولويات التي اختزلتها في ذاكرتها أهمية أول اجتماع في تاريخ الأمة وأثره على الإنسانية وهو الذي تم في غار ثور بين رسول الله عليه السلام وصاحبه الصديق أبو بكر عبدالله بن أبي قحافة رضي الله عنه، حيث بدأ باثنين الله ثالثهما وانتهى الأمر الآن بأكثر من مليار مسلم إنسان وكأني بأبي بكر وهو يشدو في طريقهما للمدينة مهاجرين حيث قال: قال النبي ولم أجزع يوقرني ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا وقد توكل لي منه بإظهار وكذا اجتماع المهاجرين والأنصار في طيبة الطيبة، حيث المكان الجغرافي الذي توحدت به الأمة واجتمعت ثم انطلقت إلى صروح النصر والعزة مع بسط النفوذ الإنساني على من حرم منه. أما المواطن فعليه مسؤوليات متعددة وهي: أولاً: المسؤولية الدينية: بلادنا موطن الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين ومهبط الوحي ومبعث الرسالة المحمدية وأرض الأنبياء والرسل وهي الأرض البكر الطاهرة التي لم تدنسها قدم الاستعمار بجميع أشكاله وهذا يكفي فخراً لتحمل المسؤولية التي يتمناها كثير من الخلق. ثانياً: المسؤولية الوطنية، وهي امتداد للمسؤولية الدينية وإن كانت كذلك فما بالك إذا كانت تجاه وطن يحرس ويرعى ويخدم المقدسات التي هي أغلى مقدرات أمة الإسلام الإنسانية، وذلك من خلال رعايتها للحرمين الشريفين وخدماتها لضيوف الرحمن ورفع راية التوحيد خفاقة في جميع المحافل الدولية مع تطبيق شريعة الله السمحاء وهذا في حد ذاته تميز وانفراد مع أداء الواجب محلياً وعربياً وإسلامياً وإقليمياً وعالمياً، وقد جاء في الأثر "حب الوطن من الإيمان"، وكذلك "الخروج عن الوطن عقوبة" وهذا شاعرنا العربي "الكاظمي" يقول: ومن كان في أوطانه حامياً لها فذكراه مسك في الأنام وعنبر ومن لم يكن من دون أوطانه حما فذاك جبان بل أخس وأحقر ثالثاً: المسؤولية الاجتماعية: المجتمع السعودي مجتمع عربي مسلم إنساني نسيجه مكتسب من انتمائه الديني والعربي والإنساني ينتسب إلى هذه الأرض الطاهرة أصلاً ومنشأ وينتمي إلى هذا الوطن المعطاء وطن الحرمين الشريفين ويرتبط ارتباطاً مباشراً بالمجتمعات التي سبقته على هذه الأرض فلم ولن يكون في يوم من الأيام حكراً على إقليم معين أو قبيلة بذاتها أو قومية بعينها بل هو واسع الأطياف صلة بعضه ببعض قائمة على الدين والأعراف والقيم والأخلاق التي لا تخالف شرع الله ومن حسن حظ هذا المجتمع أنه نقي كنقاوة ماء زمزم الذي ينبع من أرضه من الانتماءات المذهبية والعرقية التي إن حلت في مجتمع تحل معها المصائب وتجعله شذرا مذرا وتتركه فريسة لفتن لا تنقطع. وكثير من المجتمعات ذهبت ضحية هذا المستنقع النتن الخطير فمعيار المجتمع السعودي هنا "الدين المعاملة" أو كما قال عليه السلام. رابعاً: المسؤولية الإنسانية: المملكة تقع في وسط المعمورة وهي أعدل أماكنها ومنها انبثقت الحضارة القديمة وعلى أرضها عاشت أوائل الأمم ابتداءً من الأكاديون ثم البابليون ثم الآشوريون الذين غادروها إلى مواقع أخرى. وانتهاءً بحضارة أمة القرآن الخالدة، ولذلك فهي مرتبطة بالأصل ارتباطا لا ينقطع بإنسانيتها التي تؤثر عليها وتتأثر منها. لذا عليها مسؤوليات ولها حقوق تجاه المجتمع الإنساني مما يجعل الإنسان السعودي يعرف هذه القيمة التي تتطلب منه احترام الإنسان وحقوقه ونعلم جميعاً أن الدين قد حث على ذلك وأن الرسول عليه السلام طبق ذلك مع من لا ينتسب لدينه متخذاً قوله تعالى (لا إكراه في الدين) نبراساً ومنهجاً وطريقاً وقال عليه السلام: "أعط العامل أجره قبل أن يجف عرقه" وكيف تعامل النجاشي بإنسانيته مع من ذهب إليه من المسلمين. أضف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بحرب قط إلا حرص أن لا يراق دم إنسان فيها لأنه رسول رحمة للإنسانية كافة والدليل على ذلك: "دخول أهل البلاد التي يزحف إليها بدين الله أفواجاً بقناعة بعد ما رأوا أن العدل قد حل ببلادهم وارتفع ظلم الشعب عن الشعب وهذه هي ديمقراطية الإسلام الحقة وهذه هي حقوق الإنسان الجلية بعكس استعمار أعداء الإسلام لبلاد المسلمين بدعوة إحلال الديمقراطية المزيفة حيث تغيب ثقافة الإسلام ويحل محلها حفظ لغة المستعمر من قبل من غرر بهم الذين صحوا على انتهاك الأرض والعرض والدين وبقراءة لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم التي تجاوزت ستاً وعشرين غزوة تتضح استراتيجية رسول الهدى الإنسانية ابتداءً من غزوة ودان "الأبواء" وانتهاء بغزوة "تبوك". وتكمن إنسانيته بجملته الشهيرة عليه السلام عندما فتح مكة في العام الثامن الهجري "اذهبوا فأنتم الطلقاء" قالها لمن ذاق ويلات العذاب وأصنافه على أيديهم. ومن منا ينسى خطبة حجة الوداع أو البلاغ أو حجة الإسلام التي جاءت في العام العاشر الهجري والتي تبلورت بها قمة التعامل الإنساني حينما قال عليه السلام: "كل الناس سواسية". وصدق الإمام الشافعي حينما قال: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان