بلا مقدمات السندباد هنا هو غازي القصيبي، فمثل السندباد القصيبي رجل فوق العادة، وعلى خلاف السندباد القصيبي لم يقصر أسفاره على البحر بل راد مغامراته في ألف اتجاه، فنان تلبسته من الفن كل حالات المروق والمغامرة، بلا أجنحة حلقت رؤاه إلى ما بعد المابعد، وحطت على بكارة الأشياء التي لم تمسسها يد أو تلامسها عين، تجرفه موسيقى كونية فيمسك بها قصيدة، أو تتشابك أمامه علاقات الميتافيزيقا بمعطيات الواقع فيحكيها رواية.. شاعر فوق العادة، وروائي فوق العادة، وقارئ لتراث الشعر العربي، أو ناقد لذائقة الشعر فوق العادة، وباحث ودارس واداري ومنظّر، ومسؤول وسفير ووزير، للصحة أو العمل أو الكهرباء أو المياه، ومسؤول قانوني أو اداري، في الطيران أو السكك الحديدية أو الادارة أو التجارة، ونادل في أحد مطاعم جدة مؤخرا، وما تبقى بلا شك هو الأعظم.. ولست هنا بصدد الكتابة عن ظاهرة الدكتور غازي القصيبي، وانما أريد فقط أن اثبت له ما عهدناه منه وهو يدير مسؤولياته الرسمية بوهج الفنان، وحين يمارس تجربة الابداع بضمير المسؤول، وحين يصل علاقاته بالناس بكل عطاءات الفنان والمسؤول معا.. هو هكذا، خارج دائما عن سياق نص المألوف ليصبح حالة فريدة، فما رأينا قبل ذلك أو بعده وزيراً للصحة يدخل المستشفيات كمريض - بادعاء المرض - ليرى مدى الخدمة التي يحظى بها المريض وليحاسب من خذلته إنسانيته أو قهره روتين أو قاعدة أو اجراء، وهو كوزير للعمل مارس عمله في أحد المطاعم نادلاً يقدم الطعام للزبائن، ليثبت للناس جميعا أن العمل شرف أيا كانت طبيعته، وأن النظرة الاجتماعية التي كانت قد ثبتت على واجهات الادارة، كمدير عام، أو مدير على الأقل لحظة التخرج، ينبغي أن تتغير.. القاعدة الدائمة هي خروج القصيبي الجميل عن المعتاد والمألوف، كأنه في حالة دائمة للإبداع في العمل كما في الكتابة، ولهذا بالتحديد كانت دهشتي - بنفس الحجم - وأنا أستمع اليه في لقاء تلفزيوني فأجده يتحدث كما يتحدث أي مسؤول، يبرر المواقف والحالات، ويزين السلبيات كي تبدو واقعا مقبولا..! كان الكلام عن حالات البطالة في المملكة بمناسبة تقرير صدر عن وزارة التخطيط، يقول التقرير إن حالات البطالة قد تراجعت من 400ألف وكذا حالة إلى 400ألف، ولكي يهون من دلالة هذا الرقم من العاطلين أردف أن معظمهم (70%) من الحاصلين على الثانوية العامة أو دونها وكأن هؤلاء لا ينبغي أن يُحسب حسابهم في إحصاء العاطلين.. أظن أنه ينظر إلى الأمر نظرة المسؤول فقط الذي تعوزه رؤية الفنان كما عهدنا أو الانسان كما عرفنا .. فالذين توقفوا في تعليمهم عند الثانوية العامة قد توقفوا لأن غيرهم شغل مقاعدهم في الجامعات، بسبب ظرف أو مجموع أو سياسة تعليمية، ثم وقفوا في طوابير الانتظار للعمل من العاطلين لأن خريجي الجامعات قد شغلوا وظائفهم الصغيرة بعد أن عجزوا عن الحصول على العمل المناسب لمؤهلهم .. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى البطالة ليست مجالا لايحصل على لقبه الا من تخرج في احدى الجامعات ولم يعمل، حتى البطالة أصبحت بمؤهل عال؟! من ناحية ثالثة من المستحيل أن نتصور مجتمعا كل العاملين فيه من الحاصلين على مؤهلات عليا، بل أظن أن الفرد، الذي لم يتعلم القراءة والكتابة اذا كان بلا عمل هو الرقم الأبرز في أعداد العاطلين، نظرا لاتساع رقعة الممكن أمامه، كسائق أو مزارع أو حرفي أو مشرف على عمل أو عمالة إلى آخر ذلك، ومعنى أن يكون هؤلاء عاطلين أن المجتمع نفسه عاطل أو خامل.. من ناحية رابعة لماذا يكون في مجتمعنا هذا العدد من العاطلين ولدينا عشرة أمثاله من العاملين من مختلف الجنسيات، كثير منهم من حملة المؤهلات المتوسطة، وعدد لا بأس به من كبار السن الذين تجاوزوا السبعين وليس لديهم خبرة خاصة، وعدد لا يستهان به ممن لا يحملون أقل مؤهل دراسي، وهل هناك لوائح لنظام العمل تساوي بين السعودي والأجنبي اذا تعدى الستين، وتقصر عمالة غير السعوديين على الوظائف التي لا يتوفر لها من يشغلها من السعوديين حتى وإن كانت وظائف غير مرغوبة من السعوديين رغم ممارسة وزير العمل لإحدى هذه المهن دفعاً للمواطن إلى الاحتذاء وتصحيح المفهوم .. لم يناقش الدكتور غازي القصيبي - برؤيته الفنية - هذه المشكلة، بل تناولها بالاشارة الرسمية التقليدية، فبدا الخارج دائما عن نص المألوف، في دخول استثنائي إلى قلب النص الرسمي.