تأتي البيئة الأكاديمية في مقدمة ما يحرص عليه العاملون في التعليم العالي، وكلما كانت البيئة الأكاديمية بيئة مواتية وجاذبة ومستقطبة، كان التعليم العالي متطوراً وديناميكياً، وكلما كانت البيئة الأكاديمية جامدة أو ساكنة أو طاردة، تحول التعليم العالي إلى مؤسسة تعليمية واهنة ومتردية وذات مخرجات ضعيفة تهتم بالقشور دون اللب. وقد رأيت أن قرار مجلس الوزراء الأخير بخصوص الحوافز المالية المخصصة لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات السعودية، إنما يصب في هذا المنحى المهم، وهو خلق بيئة أكاديمية نشطة، تستجيب للمستجدات، وتستقطب الكفاءات السعودية، وربما تنافس القطاع الخاص الذي تسرب إليه عدد من الأكاديميين السعوديين، أنا أتكلم عن خبرة عملية وتخصصية في التعليم العالي، خبرة تزيد عن ثلث قرن، وبالتالي أزعم أن حديثي هذا سيكون بمثابة تشخيص لبعض التعمية غير الواضحة في الحوافز الأخيرة. وبداية أود التأكيد على أهمية تلك الحوافز، وأنها جاءت بعد دراسات طويلة ومتأنية، وأنها جاءت لتستجيب لحاجات مادية ومهنية، وأنها جاءت لتواكب الحراك العلمي والمهني الذي تشهده الجامعات السعودية، وأنها جاءت لتواكب افتتاح جامعات إقليمية متعددة، وأخيراً هي جاءت ونحن نشهد تأسيس جامعات وكليات أهلية عالية المهنية، وهي لابد ستنافس الجامعات الحكومية، لهذا كله فنحن نرحب بهذه الحزمة الجميلة من الحوافز المالية والتشجيعية. وهذه بعض الوقفات أرجو أن تجد القبول من قبل اللجنة أو اللجان التي ستشرع قريباً في وضع الخطط والمعايير لتفعيل قرار مجلس الوزراء، الوقفة الأولى: كل الحوافز لا تنطبق على المعيدين والمعيدات، وهذا خلل في المنهج المعرفي لمكونات الهيئة الأكاديمية. المعيد والمعيدة هما الركيزة الأولى للسلم الأكاديمي في كل الجامعات التي أعرفها، المعيد يقوم بأعمال لصيقة جداً بالعمل التدريسي والبحثي، وتجده في قاعة الدرس، وفي المختبر، وهو مساعد للأستاذ، وهو يقوم بتدريس بعض المقررات، خصوصاً الإعداد العام، وهو يدفع دفعاً ليتدرب ويصقل موهبته وخبرته الأكاديمية، بجانب أنه يعكف على برامج الماجستير أو الدكتوراه، وهو عندما يحصل على درجة الماجستير، يسجل في برنامج الدكتوراه، ويستمر يحمل لقب معيد، لأن وظائف المحاضرين قليلة جداً، وربما يطلب منه أن يدرس مقررات أكثر كونه يحمل درجة الماجستير. عدم شمول الحوافز الأخيرة لهذه الشريحة سيربك العمل الأكاديمي، وسيجعل المعيد، خصوصاً الذي يحمل درجة الماجستير، لا يتحمس للانخراط في الأكاديمية، وربما يهرب إلى القطاع الخاص الذي يفضل حاملي هذه الدرجة على حاملي درجة الدكتوراه، بحجة أن الأخيرين فوق التأهيل المطلوب أو كما يسمونه overqualifled، وحتى عند التعيين إذا عرف المعيد أن سنوات خدمته لن تحسب فيما بعد ضمن سنوات الخدمة الأكاديمية، فلن يقبل بهذه الوظيفة التي ينظر إليها على أنها وظيفة طالب وحسب، لهذا فإنني اقترح اعتبار وظيفة معيد وظيفة أكاديمية والبحث في سبل معينة لمساعدة العميد على الاستفادة من الحوافز الأخيرة. الوقفة الثانية تتعلق بأهم حافز وهو بدل نهاية الخدمة، الحقيقة أن هذا البدل من أكبر الحوافز التي وردت في مجمل الحوافز، وهو يذكرني بالجامعات العريقة مثل هارفارد أو الشركات الكبيرة مثل أرامكو، فالآن يشعر أستاذ الجامعة السعودي أن خدماته في الجامعة ستقابل بتقدير مادي كبير، وستجعله يفكر أكثر من مرة قبل قبول عروض مغرية تأتيه للانتقال إلى القطاع الخاص، وأرى أن تحسب خدماته منذ تاريخ تعيينه معيداً، وبهذا يشمل هذا البدل القطاع الأكبر من أساتذة الجامعة، إضافة إلى أهمية تضمين خدمات المعيد التي قد تصل على سبع سنوات، مما يشجع المعيد الاستمرار في وظيفته، ويشجع الأستاذ البقاء في منصبه الأكاديمي، أرى اعتماد مرونة كبيرة في تطبيق هذا الحافز، لأنه الحافز المشرف الذي لا يتوفر لكثير من العاملين في الأكاديمية الإقليمية والعالمية، وهو مما تشكر عليه وزارة التعليم العالي. الوقفة الثالثة تتعلق ببدل التعليم الذي ربط بالنصاب، وهذا البدل ما كان يجب ربطه بالنصاب، ذلك أن النصاب التدريسي واجب على صاحبه لا يستحق مكافأة، وفي النظام السابق من يتجاوز النصاب يعطى مكافأة مقدارها مائة ريال عن كل ساعة، أرى أن هذا البدل يكون مفيداً جداً، ومكرمة تشجيعية لو أصبح متاحاً لأكبر شريحة عاملة في التدريس، مقدار هذا البدل في حدود 25% واحسب لو أنه أدخل ضمن الراتب الأساسي للهيئة التدريسية لكان ضربة لازب، ذلك أن الكل ومنذ عشر سنوات يتطلعون لتعديل سلم الرواتب، أما وقد صدر بهذه الصيغة، فلا بد من المرونة الكبيرة عند النظر في قضية النصاب، لأسباب كثيرة يأتي على رأسها: إبعاد التشاحن والتنافس حول الأنصبة. ومنها أن النصاب ليس سيفاً مصلتاً على رقاب الأساتذة، فقد لا يكتمل النصاب لأسباب خارجة عن إرادة القسم. ومنها أن عدد ساعات المقرر الواحد يختلف من قسم لآخر ومن جامعة لأخرى، وقد يصل الفرق إلى الضعف، ومنها أن وزن المقرر مسألة اجتهادية، وبالتالي ربط هذا البدل المهم بالنصاب يجعله صعب المنال وصعب التنفيذ، ثم أمر آخر وهو في نظري خلل منهجي ، فقد استبعدت أعمال أكاديمية لا تقل أهمية عن النصاب التدريسي مثل البحث العلمي، والتفرغ العلمي الموجه لقضية علمية صرفة، وكأن الجامعة أنما تقوم على التدريس فقط، لهذا اقترح مرونة كبيرة جداً عند إقرار الضوابط لهذا البدل، بحيث يشمل أعمالاً أكاديمية متعددة، ويغطي العجز الكبير في راتب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السعودية. هذه وقفات ثلاث من وقفات كثيرة أرجات الحديث عنها للمشاركة إن شاء الله في ورشة العمل التي ستقيمها جامعة الملك سعود في منتصف شهر ذي القعدة، وبمشاركة مباركة من وزير التعليم العالي الأكاديمي المخلص، واحسب أن هذه الورشة ضرورية لتبيين بعض الصعوبات عند التطبيق، ولإزالة التعمية غير الواضحة في بعض الحوافز. يقول المنظرون الأكاديميون: اعطني بيئة أكاديمية نشطة ومتحفزة وتنافسية أعطيك مخرجات تعليمية عالية ومنضبطة، وهذا ممكن الآن مع هذه القرارات الجيدة. فخادم الحرمين الشريفين، المعروف عنه حماسه الكبير لشؤون التعليم وشجونه، وافق على هذه الحوافز، وبقى أن نجعل هذه الحوافز مرنة تتسع للجميع، وتشجع الجميع، وتدفع بهم لخلق بيئة أكاديمية تنافسية، كما أرادها ولي الأمر، وبكلمة موجزة: الخطوط العريضة تم إقرارها، وبقيت التفاصيل وسبل التطبيق، فلنجعلها تتسق مع تطلعات خادم الحرمين الشريفين والمسؤولين عن التعليم العالي، وهذه بيدنا نحن، والله أعلم.