بدأت حملة المرشح الديمقراطي الرئاسي باراك أوباما في الترنح أمام الضربات المتسارعة والمتكررة التي يوجهها لها الجمهوريون خاصة عقب مؤتمر الحزب الجمهوري الذي بث دفقة حياة ونشاط وحيوية في حملة المرشح الجمهوري جون ماكين وبين قواعد الحزب الإنجيلية المحافظة التي أحياها الاختيار غير المتوقع للإنجيلية المحافظة سارة بالين. وكانت قواعد الحزب الجمهوري الإنجيلية تعاني من القنوط العميق عقب فوز ماكين في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. فهو بنظرهم لا يمثل الجناح الأكثر محافظة في الحزب. الأمر الذي دفع والدة ماكين ( 92عاماً) إلى القول: "على الجناح المحافظ أن يمسكوا بأنوفهم ويصوتوا لابني". كناية إلى عدم تحملهم لرائحته (غير الإنجيلية) بما يكفي للتصويت له. إلا أن قرار ماكين (المحسوب سياسياً) باختيار عزيزة الإنجيليين والمقربة إلى قلوبهم حاكمة ولاية ألاسكا المتشددة دينياً سارة بالين أعاد الحياة وبنى جسور الثقة بين المرشح وقواعد حزبه تلك. وتشتد الهجمات الجمهورية ضد المرشح الديمقراطي أوباما على الرغم من النجاح الذي حققه الحزب الديمقراطي في مؤتمره بمدينة دنفر حيث استطاع الديمقراطيون رأب الصدع ولم الشمل والتوفيق بين مؤيدي كلينتون وأوباما. إلا أن قرار جون ماكين غير المتوقع باختيار سارة بالين التي ليست معروفة قومياً أخذ باراك أوباما وحملته على حين غرة وشكّل مفاجئة غير متوقعة كما أوقعهم في ارتباك واضح تكتيكياً واستراتيجياً. الجمهوريون يسرقون شعار "التغيير" كما شكل التحوّل المفاجئ لحملة ماكين من اعتماد شعار "الخبرة" وشعار "الوطن أولاً" إلى سرقة شعار "التغيير" من باراك أوباما ومحاولة امتلاكه، وطرح ماكين ورفيقته كإصلاحيين وقادة للتغير، كل ذلك أضاف إرباكا إلى إرباك بين حملة الديمقراطي باراك أوباما الذي كانت حملته الانتخابية على 20شهراً تدور حول التغيير، وكان شعار التغيير هو المحرك الأساسي لها. فأن يشهد أوباما منافسه الجمهوري في حركة تكتيكية بارعة يسرق منه شعار حملته وثمرة عمله بعد كل هذا الجهد، أمر زلزل إلى حد ما أركان حملة أوباما الانتخابية ويجعلهم يتحولون من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع. ومن امتلاك زمام الأمور إلى محاولة ملاحقة الحدث والوقوع في فخ رد الفعل بدل صناعة الحدث. وازداد الارتباك مع زيادة الحصار الذي فرضته حملة الجمهوري ماكين ضدهم. لقد أفلحت حملة ماكين خلال الأيام الماضية في تحويل أنظار المصوتين والناخبين عن القضايا الأساسية الملحة للمواطن والوطن، وجعلها مقارنة شخصية بين شخصيتي جون ماكين وباراك أوباما أي محاولة (شخصنة الانتخابات) كما ذكر احد مديري حملة ماكين "نريد الانتخابات أن تكون عن الشخصيات ليس عن القضايا". نجاح ماكين وحملته في تحقيق ذلك سيعني فوزه في الانتخابات. لقد تحولت التغطية الإعلامية خلال الأيام القليلة الماضية إلى حديث عن سياسة "أحمر الشفاه" وعن المعاملة المعادية للمرأة التي تتلقاها سارة بالين من الإعلام الأميركي. لقد استطاع فريق ماكين بذكاء إدارة دورة الأخبار والتلاعب بالإعلام وتحديد أجندته وإيقاعه في فخ المهاترات والمناوشات الهامشية التي لا علاقة لها بالقضايا الانتخابية المصيرية. وتعتبر قدرة الحملات الانتخابية على التلاعب بالدورة الإخبارية اليومية والتحكم في أجندة التغطية الإعلامية من أهم الأسلحة الانتخابية الفعالة هذه الأيام. ففي زمن تنتشر فيه الأخبار في مدة لا تتجاوز الدقائق وزمن تتعدد فيه الوسائط الإعلامية والاتصالية عبر الانترنت والبلوغرز والبلاكبيري والمحطات المحلية والكابلات والفضائيات والمواقع على الانترنت والبريد الإلكتروني ، تتحول المؤسسات الإعلامية إلى مستهلكة للخبر ولاهثة وراءه أكثر من كونها صانعة أو ناشرة للخبر، وتتحول إلى مؤسسات ملتهمة للخبر ومدوّرة له ومتصارعة على نشره أو إذاعته في اقرب وأسرع فرصة حتى وإن كان الخبر هامشياً أو كان مفتقدا للمصداقية الكاملة. التنافس الشديد بين المؤسسات الإعلامية جعلها لقمة سائغة وضحية للتلاعب بها من قبل الحملات الانتخابية أو المؤسسات الحكومية. فأصبحت قضية نوع الخبر وطريقة تسريبه وموعد إطلاقه وطريقة صياغته من قبل تلك المؤسسات هو المتحكم في دورة الخبر وأجندة الإعلام والأخبار اليومية. حملة الجمهوري جون ماكين حققت خلال الأيام الماضية فوزاً كاسحاً ضد منافسه باراك أوباما وحملته. فنجاحهم في تحديد أجندة الأخبار اليومية وتسديد ضربات متوالية لرأس أوباما ووضعه في الموقع الدفاعي، كل ذلك رفع من درجة حماسة القواعد الحزبية الجمهورية وبعث في قلوبهم الأمل بإمكانية الفوز في نوفمبر كما بث عامل الشك في قدرة أوباما على الصمود وامتصاص الضربات وتوجيه الضربات المعاكسة وإدارة الأزمة. وهذه يعتبرها بعض الناخبين إشارات إلى قدرة المرشح وامتحان لمعدنه وقوته على الحكم ومواجهة المشاكل الداخلية والخارجية عند توليه الرئاسة. الجمهوريون يتقنون أسلوب الهجوم لقد أتقن الجمهوريون على مدى الزمن أسلوب الهجوم وسحق الخصوم في الانتخابات، وخاصة الانتخابات الرئاسية، وذلك عبر شن الهجمات القوية والمتكررة على شخصية الخصم والتشكيك في قدراته ووطنيته. ويستخدم الجمهوريون أكثر من خصومهم الديمقراطيين أسلوب "الدعاية السلبية" والتي تعتمد خلط الحقائق بالإشاعات والتشكيك والتخويف والتهويل وحتى الكذب في بعض الأحيان. ومهما قيل عن قدرة المصوتين على التمييز بين الكذب والصدق في الإعلانات والدعايات السلبية إلا أن الأبحاث أكدت تأثيرها على المصوتين. فهي تعمد إلى تشكيل صورة المرشح الخصم سلبياً في ذهن المرشح أولاً، الأمر الذي يترك أثراً سلبياً، ويضطر المرشح المُتهم إلى نفي التهم والسلبيات عنه بدل قضاء الوقت والجهد والمال في تعريفهم بنفسه وأجندته. وفي هذه الدورة الانتخابية وعلى الرغم من تعهد جون ماكين وباراك أوباما بعدم اللجوء إلى التهجم الشخصي والدعايات والإعلانات السلبية إلا أنهما يمارسانها الآن معاً ضد بعضهما البعض وإن كان بدرجات متفاوتة. ويجدر القول أن حملة ماكين وحزبه الجمهوري، بعد إدراكهم لاستحالة الفوز على أوباما دون اللجوء إلى أساليبهم التقليدية السلبية، نقضوا هذا التعهد وبادروا بشن حملة سلبية قوية ضد باراك أوباما مما اضطره إلى الرد بالمثل. إلا أنه وكما اشرنا إن براعة الجمهوريين في هذه الأساليب تفوق براعة خصومهم الديمقراطيين بمراحل. لقد شاهدنا خلال الأيام العشرة الماضية اهتزازا غير مسبوق في حملة الديمقراطي باراك أوباما، ولاحظنا أثر الضربات المتكررة على حملته ورسالته، كما لاحظنا تردده، الذي قد يكون نابعاً من شخصيته غير الهجومية والباردة، في الرد على هذه اللكمات بمثلها أو أقوى منها، الأمر الذي يثير تشككاً في مدى قوة شكيمته وقدرته على الهجوم والانقضاض على خصومه. مشكلة أوباما أنه يطرح نفسه كسياسي جديد ينأى بنفسه عن الأساليب السياسية القديمة الرخيصة ومن ثم ينأى بنفسه عن ممارستها، ولكنه يواجه خصماً سياسياً تقليدياً يمارس تلك الأساليب التقليدية ولا يتردد في التفنن بها. فشل أوباما في التعامل مع هذه المتغيرات الانتخابية الجديدة وانتزاع مقود الحملة والمبادرة من خصمه الجمهوري جون ماكين يجعله غير مؤهل للقيادة والرئاسة في أعين أغلب المصوتين الأميركيين. فما لا يريده الأميركيون هو رئيس ضعيف أو متردد أو فاشل. (خدمة ACT)