يبدو لي ان مراحل العمر مثل فصول السنة، الصيف والربيع والشتاء والخريف، ولكل صيف طابعه الخاص، ومزاياه، ومحاسنه ومساوئه. واذا كانت مرحلة الشباب تمثل أو تشبه فصل الربيع بما فيه من نشاط وابتهاج وجمال، فان مرحلة الشيخوخة تمثل الخريف بما فيه من اصفرار وتساقط لأوراق الأشجار وما فيه ايضا من (جلال). يقول العريان بن الهيثم وقد شارف التسعين من العمر: سلني أنبئك بآيات الكبر نوم العشاء وسعال بالسحر وقلة النوم اذا الليل اعتكر وقلة الطعم اذا الزاد حضر وسرعة الطرف وتجميح النظر وتركك الحسناء في قبل الظهر) ويقصد (بسرعة الطرف) كثرة الرمش اغماض العين وفتحها ويعود سبب هذا لجفاف العيون بسبب الشيخوخة حيث يقل الدمع وتجف العينان وله الآن علاج مرطب عبارة عن دموع صناعية. أما (تجميح النظر) فهو تصغير العين بأمل الرؤية بوضوح لأن النظر يضعف وتصغير العين يساعد على التركيز الى حد ما. ومن المؤلم ان يكون الرجل فقيرا جدا في شبابه، ثم يغتني ويثري في شيخوخته وقد فقد القدرة على الاستفادة من المال والنعيم، وهذا ما حدث مع رجل عربي كان فقيرا معدما ايام الشباب، وحين جاوز السبعين ملك اموالا طائلة من إرث وطفرة فاشترى القصور والجواري ولكنها زادته حسرة على حسرة فقال: ما كنت أرجوه اذ كنت ابن عشرينا ملكته بعد أن جاوزت سبعينا تطيف بي من بنات الترك أغزلة مثل الغصون على كثبان يبرينا وخرد من بنات الروم رائعة يحكين بالحسن حور الجنة العينا يغمزنني بأساريع منعمة تكاد تنقض من أطرافها لينا يردن إحياء ميت لا حراك به فكيف يحيين ميتا صار مدفونا قالوا: أنينك طول الليل يقلقنا فما الذي تشتكي؟ قلت الثمانينا" ويقول المعري يصف شيخا مسناً تزوج فتاة في العشرين: "تزوج الشيخ فألفيته كأنه مثقل إبل وحل فعرسه في تعب دائم لا تخضب الكف ولا تكتحل ملت، وإن أحسن أيامه - تقول في النفس - متى يرتحل" والعمر يقاس بالسرور لا بالطول، قال جعفر بن دوستويه: لي خمس وثمانون سنه فاذا قدرتها كانت سنه إن عمر المرء ما قد سره ليس عمر المرء مر الأزمنه ومثله قول ابي فراس الحمداني: ما العمر ما طالت به الدهور العمر ما تم به السرور وحين شاخ ابودلف العجلي وشاب، وكان رجلا انفا كريما، عيرته جارته وهي غضبى بشيبه فقال: تهزأت اذ رأت شيبي فقلت لها لا تهزأي من يطل عمر به يشب فينا لكن وإن شيب بدا أرب وليس فيكن بعد الشيب من أرب شيب الرجال لهم عز ومكرمة وشيبكن لكنَّ الذل فاكتئبي!" وهي على كل حال وجهة نظر! غير ان الشيوخ المسنين اشتهروا بالحكمة وحنكة الرأي لكثرة ما جربوا فهم يقولون عن المسن "عرك الدهر وعركه" ويقول المثل العربي: "زاحم بعودٍ أو فدع" أي زاحم أقرانك - بمعنى نافسهم وأغلبهم - برأي شيخ طاعن في السن (عود). وهناك مثل عالمي يقول: "الشباب يظنون الشيوخ مجانين، والشيوخ يعرفون أن الشباب هم المجانين). قلت: وأكثر ما يكون هذا في امور المال والاستثمار فالشاب يرى أباه المسن يستثمر ماله الذي وفره في استثمار مضمون دخله قليل والشاب يعتقد انه لو استثمر هذا المال في مضاربات الاسهم مثلا لتضاعف فيعرض الفكرة على الأب الشيخ فيرفض، هنا يرى الشاب ان هذا المسن كالمجنون لرفضه هذه الفرصة الذهبية، اما الشيخ فيعرف ان الشاب هو المجنون لأنه قد يضيع المال كله غالبا وبرد الشيخوخة لا يرحم.. كذلك المغامرات العاطفية يقول ابن ابي فنن: قالت عهدتك مجنونا فقلت لها إن الشباب جنون برؤه الكبر وفي مأثورنا الشعبي ارتبطت الشيخوخة بالنصائح الذهبية يقدمها الأب لأولاده ويفخر انها صادرة من شيخ فاهم جرب الامور، يقول حميدان الشويعر واصفا نفسه (بالعود) اي الشيخ الطاعن في السن الذي (يبخص الأمور) يقول يوصي ابنه (مجلي): يامجلي اسمع لعود فصيح فاهم عارف في فنون العرب افتهم من عليم مجرب حكيم باخص بالذوارب ومثوى النكب انذر اللي تداني بقرب العجوز تذبحه والنسم مثل فوح اللهب من تجوز عجوز فهو نادم لويفرش ويلحّف ثمين الذهب ما خبرنا يساهر كود القريص جعلها الله تساهر على أية سبب) ولا ادري لماذا يتجنى الشيوخ المسنين - بعضهم - على العجائز من النساء وهم (في الهوا سواء)!؟ على أن حميدان الشويعر نفسه - ورغم إبائه وتظاهره بالقوة - شكى من الشيخوخة مر الشكوى، خاصة حين تنكرت له زوجته واولاده - كما يقول - بسبب كبره في السن، وفوق هذا ركبه الدين، وعليه ان يعمل وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا، يقول: "بالعون منيف قاله لي يقول غلاك يوم انك صبي وكذبت منيف في قوله وتبين لي ما كان غبي شفت الشايب عند عياله وام عياله مثل العزبي احد يقال له لبيه واحد يقال له وش تبي؟! حتى أم عيالي زهدت بي نسيت زماني وطربي اشوف ظهيري موجعني منقطع من حد حقي وهجوسي تسري بالليل خوف من موت بطلبي الدنيا عامرها دامر ما فيها خير ياعربي صدرت وطويت العدة ويعقبن من كان يبي"