لعبت عوامل عدة أدواراً رئيسية في مسلسل استحالة جل الشرائح المجتمعية في العالم العربي شيوخاً، ما أفقد «المشيخة» كثيراً من وقارها وبريقها!. وبعيداً عن تلك العوامل والمسببات يلحظ المتتبع لما تلوكه ألسن العرب ضبابية تكتنف آلية إطلاق واستخدام مفردة «شيخ» إذ لم يعد الأمر (كما جرت العادة) قصراً على الطاعنين في السن (مثلاً)، أو أولي العلم والمعرفة، بل طاولت (شيخ) أخيراً كل من أعفى لحيته. وفي وقت تململ فيه سعوديون غير مرة من تحوّل كلّ من ظهرت عليه علامات التدين إلى «شيخ»، اصطف غالبية المتمسكين بالتيار الديني في السعودية خلف فتوى في البلاد شذب فيها سبل ومسارب «المشيخة» بعد أن قصرها على المتقدمين في العمر وأهل العلم، مستثنياً قائمة طويلة من «المشائخ الجدد». وبمنأى عن جدلية الأطياف الفكرية، يمكن الخلوص إلى أن وفاقاً سرى بينها ل «وأد» ظاهرة المشائخ الجدد، خصوصاً بعد أن أمست جل الألسن تلوكها بين الفنية والأخرى مطلقة إياها على «تاجر سيارات مستعملة خدمته الظروف ليصبح أحد أثرى تجار منطقته»، أو على «شاب أطلق لحيته وبات يحدّث ويفتي ويستفتى، من دون تخصص دراسي أو مؤهل علمي يسوّغ له ذلك». ولعل المتتبع للموروث الاجتماعي في العالم العربي، يلحظ تسخير ظرفاء المجتمعات العربية ل «شيخ» كلازمة من لوازم المزاح والدعابة، فضلاً عن استخدام حفنة أخرى لها على سبيل التهكم والاستغراب، إضافة إلى استحالتها أداة نداء في بعض أحيان عدة. ولم تخل المهن أيضاً من المشيخة، فبات للخبازين والنجارين والحائكين (...) مشائخهم، إذ استحال الشيخ رئيساً ل «الصناع» أيضاً، ولم يعد قصراً على من استبانت فيه طعونة السن وظهر عليه الشب فحسب، ولم تعد المشيخة ملازمة ل «الوقار» أيضاً. وفيما حوى القرآن الكريم مفردة «شيخ» أكثر من مرة لم ير في أي منها دلالتها على حمل صاحبها ل «العلوم والمعرفة»، أو ترؤسه زملاء مهنته، أو تزعمه أفراد قبيلته، إذ ألمحت في جميع مواطنها إلى كِبَر السن (قالوا يا أيها أيها العزيز إن له أباً شيخاً ...)، يروي الموروث الإسلامي أن أول خلفاء المسلمين (أبو بكر الصديق) استنكر على نفر من الصحابة حديثهم (الجاف) إلى أبي سفيان (قبل إسلامه) بقوله: «أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟»، ما يدل على صحة استخدامها في هذا الموطن أيضاً. ويرى الباحث اللغوي عبدالله الزايدي أن إطلاق كلمة شيخ يجب أن يكون (بحسب لغة العرب) على كل من استبانت فيه الشيخوخة وكبر السن وظهر عليه الشيب، «ويصح إطلاقها على الأستاذ والعالم وكبير القوم ورئيس الصناعة وعلى من كان كبيراً في أعين القوم علماً وفضيلة علماً بأن القرآن الكريم وظفها للدلالة على تقدم العمر فقط، كما أن شيخ النار كناية تشير إلى إبليس»! ويعتقد أستاذ الاجتماع عبدالعزيز القرشي أن الشرائح المجتمعية في العالم العربي أمست تصنف المشائخ إلى أربعة أصناف بغض النظر عن دلالة المفردة اللغوية، «يقال لفلان (مثلاً) شيخ لواحد من أربعة أسباب، فإما أن يكون تشييخه عائد لما له من صفات في كبر السن والوقار، أو يكون شيخاً لما له من علم ومعرفة، وأخيراً ظهر لنا من شيخهم المال والجاه، وللأسف هناك شيوخ للفسق والفساد أيضاً». وفي العالم العربي، إذ يكثر الشيوخ، تختلف مآرب ومقاصد مطلقي هذه المفردة بحسب الأقطار والأوطان، ففي الحجاز مثلاً تطلق الكلمة من باب التوقير والاحترام، وتلامس أهل العلم أيضاً، ويقصد بها المزاح والتهكم أحياناً. ولا يختلف الحال كثيراً في أرض الكنانة، إذ يطلقها المصريون على الطاعن في السن، بينما يطلقها أهل المغرب العربي على من يحيون الأعراس والحفلات والليالي الملاح!