بدت العولمة بعصرنا الراهن تتحول إلى شكل من أشكال التدمير نظراً لإفرازاتها ذات الطابع غير الإنساني. فلم يعد يكفي أن تُغرى شعوب البلدان النامية بالرفاهية جرّاء عولمة نُظمها. إن الإيحاء لهذه الشعوب بصلاحية وصفات معولمة جاهزة لا يحقق الرفاهية . المطلوب، عبر منطق العولمة تحويل العالم لسوق كبرى للاستثمار لتستنزف القلَّةُ ثروات الأكثرية بشعارات الإغراء بالرفاهية. فاضطرار بعض المجتمعات إلى إجراء تحولات اقتصادية وفقاً لتوصيات البنك الدولي يضع الأفراد في هذه المجتمعات في مآزق ضاغطة بسبب النتائج المترتبة على هذه التحولات التي تضر، في الغالب، بالفئات المحدودة الدخل؛ وهي الفئات المرشحة - أكثر من السابق - للكثير من الضغوط المؤذية نفسياً وجسمياً. بل تعمل الضغوط على تفاقم الاضطرابات السلوكية، كالسلوك المناهض للمجتمع Anti - social behavior والعنف بصوره المختلفة. تمرُّ مجتمعاتنا بامتحان عسير يختبر صمودها أمام طوفان العولمة التي تسعى إلى إلغاء أو الحد من دور الذات الاجتماعية وإحلال بدلاً منها ذاتاً نرجسية مهووسة بالعالمية المشجّعة على الفردية على نحو مفرط. إن إضعاف مناعة الذات الاجتماعية مطلوب من خلال عولمة رأسمالية السوق الفوق قومي الذي يعمل على تغيير نُظمٍ اجتماعيةٍ أو تحويلها إلى نُظمٍ ذات مفاهيم، وتصورات، ومعايير تحتكم لنظم الاقتصاد الحر أو لقيم رأس المال الذي لا يعرف سوى الرّبح. بمعنى: أن العولمة بمثابة صياغة جديدة للعالم تخدم، في الأساس، مبدأ الرّبح عن طريق التحكم في قانون عالمي للعرض والطلب. فعملية إعادة التأهيل المُعَوءلَم لسلوك الإنسان الذي اعتاد الدفء السيكولوجي من خلال بعض نظمه الاجتماعية القديمة الصالحة، تجعله - أي هذه العملية - مجبراً، في البداية، على التصرف وفقاً لقانون العرض والطلب الذي لا يقيم وزناً لهذه النُّظم التي تتخللها اعتبارات إنسانية كالحب، والانتماء للآخر، واحترام الذات. وفي سياق آليات العولمة، تدفع الآلة الإعلامية المُعَوءلَمة مجتمعاتنا دفعاً نحو طلب السلع لامتلاك ما ليس هو ضروري فعلاً في الحياة. وبهذه الطريقة يكون لقانون العرض والطلب قيمة ومبرر سيكولوجي يجعل من السلع الفوق قومية في الأسواق الوطنية مقبولة ومطلوبة بما قد يدفع الأفراد (غالباً) لامتلاكها بطريقة غير منضبطة. ولهذا السبب السيكولوجي قد يقع الأفراد، وخاصّةً الذين لا يتمتعون بدخول مالية جيدة في مصيدة إغراءات وإيحاءات السوق التي تحاول الإعلانات التجارية أن تعقلنها لهم مرّة، وأن تغريهم بها عبر ربطها بطريقة مشرّطة انفعالياً بالإثارة الجنسية مرّة أخرى. وعلى هذا المنوال تُفرض نُظمُ جديدة مُعَوءلَمَة كأساليب حياة لجعل المجتمعات في وضع يجبرها، بالتدريج، على الاستسلام لقدرها. وهذا ما قد يدفعها للانخراط دفعاً في ركب العولمة بآلياتها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وحتى السياسية دون ضوابط ذاتية. وفي هذه الحالة، من المتوقع - في الغالب - أن يكون وضع مجتمعاتنا مأساوياً بسبب حجم الشرائح السكانية المتضررة من هذا النمط المُعَوءلَم، وبسبب أيضاً تخلفها الديموقراطي الذي يحول دون تطور وسائلها التوافقية مع المستجد التي تحدّ من النتائج غير المرغوبة عبر ترشيد القرارات لصالح الأغلبية. وعلى الرغم من أن مشروع العولمة يتضمّن جوانب مفيدة، إلا أن جوانبه الأخرى تبعث على الشعور بعدم الجدوى والتشاؤم والخوف من المستقبل، وعدم القدرة على التحكم في الذات. فتصاعد الارتباكات الاجتماعية، والتحولات الثقافية والمفاهيمية السريعة المغايرة لما هو مألوف يزيد الأعباء على الأفراد، ويضعهم في حالة تحدّ مستمر مع قدراتهم ومهاراتهم لمواجهة هذه الارتباكات والتحولات دون أثمان مكلفة. إلا أن المتوقع، كما أعتقد، هو أن افتقار مجتمعاتنا لمهارات السلوك الجمعي والتعاوني والديمقراطي من جهة، وقفز المجتمعات الغنية على الشخصية الوطنية أو تحويلها إلى كيانات هامشية ثقافياً واجتماعيا من جهة أخرى، سيكون له تبعات سلوكية خطيرة غير مرغوبة. فالعولمة - بجوانب منها - سوف تعمل على إضعاف مقاومة مناعة مجتمعاتنا الذاتية معرضة إياها لمضاعفة الاضطرابات النفسية والسلوكية بين الناس. فمن المحتمل أن تتضاعف الاضطرابات النفسية والعقلية، ويتفشى السلوك العدواني ويتنوع على شكل جرائم، كجرائم الاعتداء والتهديد والتحرش الجنسي، والسّرقة، والقتل. هذا فضلاً عن تراجع العلاقات الإنسانية بشكل خطير بين الناس (كتدهور العلاقات الاجتماعية، وزيادة صراعاتها الاجتماعية) مما يقلل أو يضعف إلى درجة كبيرة مصادر الإشباع العاطفي الإنساني المتعلقة بالانتماء للآخر، والحب. فتبدو الكراهية كرد فعل للفردانية المطعّمة بتجنب الآخر والانزواء عن الآخرين. فيميل الأفراد كجزء من آلية التفرغ لذاتهم كأفراد غير مترابطين أو مستقلين بطريقة أنانية معزّزة فيهم النمط السلوكي النرجسي المفرط. إن حماية مجتمعاتنا من الانزلاق نحو المزيد من التدهور في الصحة النفسية يتطلب أن تمارس هذه المجتمعات دورها في مناقشة الآثار السلبية الجانبية للعولمة وتشكيل منظمات اجتماعية مدنية تعمل كقنوات لترشيد القرارات لتصب لصالح الأغلبية، بما في ذلك طبعاً تلك القرارات المتعلقة بالتحولات الكبرى ذات الصلة بمستحقاقات العولمة. @ اختصاصي بعلم النفس