يتحسر البعض على الماضي حينما كان أهل القرية أو الحي يتعاونون ويساند كل منهم الأخر في احتياجاته ومتطلباته في الفرح وفي أوقات المحن والمصائب. يقولون بأن الناس تغيرت فحين تحل بك أزمة لن تجد جارك أو قريبك أو ابن قريتك يبادر إلى مساعدتك كما كان يحدث في الماضي. يقولون بأن الناس تغيرت، واصبح كل إنسان مهتماً بنفسه فقط. يقولون بأن المجتمع أصبح مادياً بشكل ما أو بآخر، وهذه المادية تأتي على حساب الفعل التكافلي وعلى حساب الفعل التعاوني وعلى حساب الشهامة والكرم والبذل والعطاء وغيرها من المثل النبيلة. يقولون بأن الناس كانت تؤمن بأهمية الجار والرفيق، حتى إنهم كانوا يقولون الجار قبل الدار، لكنها الأن لم تعد تبالي، حتى إن الناس أصبحت تسكن في صناديق مغلقة بالمدن لا يرى الإنسان جاره في الصندوق المجاور ولا يلعب الطفل مع ابن جاره. حتى في القرى والهجر اصبح الناس يسكنون متباعدين في بطون الأودية وفي أطراف الجبال غير آبهين بالبقاء ضمن نسيج الجماعة العمراني وبالتالي الاجتماعي... المفكرون لم يقدموا لنا دراسات كافية لشرح هذه الظواهر، ربما لأنهم مثل غيرهم أشغلتهم طفرة الحجر أو أنهم وجدوا أنفسهم ضمن سياق اجتماعي أغلق منافذ التحليل والتفكير لديهم. مهندسو العمران ومخططو المدن والأحياء مجرد مصممين ومعماريين لايعنيهم البعد الاجتماعي في مايقدمونه من مخططات ومشاريع، أحالوا مدننا إلى مربعات يحوي كل منها مجموعة من الصناديق المسورة، تفتقد روح الحي الاجتماعية والبعد الإنساني في علاقات الساكنين. أبسط تبرير هو أن ذلك نتيجة حتمية لإفرازات الوفرة المادية، حين باغتتنا ولم نكن مهيّأين وواعين لتأثيراتها. انجرفنا خلف البناء الحجري المادي دون وعي اجتماعي كاف ودون بناء مؤسساتي في جوانبه الاجتماعية والتنموية... اصبح لدينا فجوة حين هدم البناء الاجتماعي التقليدي البسيط بسبب الوفرة المادية الكبيرة ولم يحل محله بناء مؤسساتي اجتماعي حديث. بمعنى آخر هدمنا بناء الحي والقرية والهجرة ولم نقدم البناء المعرفي الاجتماعي الفكري المؤسساتي الحديث أو البديل. في ظل الطفرة الجديدة، هل يمكن التأمل في سبل ردم الهوة التي حدثت؟ أم نواصل بناء الحجر دون الالتفات إلى بناء المؤسسات الاجتماعية الحديثة؟ هل ننتظر الجموع حتى تعود لنماذجها القيمة أم نقدم نماذج ومؤسسات حديثة بديلة؟ الفجوة الموجودة جعلت البعض يشعر بعدم الأمان، لأنه يشعر بأن لا أحد يسنده من الخلف إن هو وقع في مرض أو عوز أو حاجة .. والشعور بعدم الأمان كما نعلم، هو أخطر مهددات الانتماء والأمن معاً.... حفظ الله بلادنا من كل مكروه وأدام علينا الأمن والأمان، دائماً.