قليلاً، أو نادراً ما أراجع دائرة حكومية. إذ ليس لي فيها حاجة، أو مأرب، أو منفعة، أو ما يمس حياتي بشكل مباشر. لذا فإن فضائي اليومي، والاسبوعي، والزماني هو الطريق من منزلي إلى مكاتب الجريدة ذهاباً وإياباً. حتى انني أحفظ المنعطفات و"المطبات" الصناعية، وغير الصناعية، وسديم السأم عند اشارات المرور، أما ما عدا ذلك من فضاءات فلا أكاد أميزها، أو أتعرف عليها. قبل أيام اضطررت إلى مراجعة دائرة حكومية قسراً، فذهبت باكراً، باكراً جداً حتى أكون مع أوائل الداخلين إلى ذلك المبنى العجيب. فلا أكون في آخر الطوابير الممتدة، والقلقة إلى حد التلاشي. دخلت المبنى أحمل - حسب الشروط - ملفاً "علاقي" أخضر اشتريته من الباعة أمام المبنى، ووضعت فيه الأوراق والمستندات والاثباتات المطلوبة، ثم بدأت رحلة العذاب. بداية عرفت أن بيننا وبين القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه مسافات جداً شاسعة وواسعة في الفهم، والسلوك، والممارسة، والأداء، والوعي، والثقافة الادارية، وكان هذا أول احباط وأول فجيعة. بدأت رحلة العذابات في أروقة، وممرات، ومكاتب الادارة، وخارجها إذ في كل لحظة، وعند كل موظف يطلب مني استكمال الملف بتصوير ذاك المستند، أو تلك الوثيقة، أو الذهاب إلى جهة لاثبات حالة، أو تصديق أوراق. العمل لايزال يدوياً، وبطرق بائدة كنت أظن أننا تجاوزناها تماماً، ونسينا أساليبها، وعرفنا أنها وسائل، وممارسات لم تعد نافعة ولا مجدية في زمن أصبحت الادارة الالكترونية سيدة العالم، ووجهه الحضاري. ومحصن أمنه، واستقراره، وتوفير المعلومات في أية لحظة في أقل من ثانية زمنية. وبكبسة مفتاح صغير في جهاز الحاسب الآلي. كنت اعتقد أننا دفنا زمن الورق، والملف "العلاقي" الأخضر والتأشير على المعاملات، وتذييلها بالشروحات مثل "لإجراء اللازم" و"حسب النظام" وسواها من العبارات البليدة التي لا تحمل إلا دلالات الهروب من المسئولية، والعجز عن تحقيق المستوى الاداري الجيد الذي يسهل مصالح الناس، ويكرس استكمال المطلوب بصورة سهلة، ومريحة، وآمنة. لانزال، ورق، مع ورق، مع طوابير أمام موظف بالكاد يتمكن من تهجئة ما أمامه من حروف، وزمن يمضي في الهدر، والضياع، وعدم الاحساس بقيمته الثمينة، والغالية جداً. ثم، وهذه ثالثة الأثافي كما تقول العرب، مبنى قديم، متهالك، لا تتوفر فيه أدنى وسائل المتطلبات الصحية يتكدس داخله كل يوم مئات البشر من رجال ونساء يختنقون لعدم وجود التهوية المطلوبة. أصمت، لأتذكر. "ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام"