أجل، لقد وضعت حرب القوقاز الجديدة أوزارها.بيد أن العبر والدروس تبدو كبيرة، ويصعب على المرء استخلاصها في الوجيز من الزمن.. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأمر الذي يتبدى على نحو مباشر، أو لنقل دون الكثير من العناء، هو غياب التكافؤ والتوازن في حرب ما كان يجب لها في الأصل أن تندلع. لقد أجمع الكثير من المحللين الروس والغربيين على حد سواء على القول بأن جورجيا بالغت كثيراً في تقييم قدراتها الحربية، وفي استعداد الغرب لتقديم مساعدات فعلية لها في المعركة. وتشير التقييمات العسكرية إلى أنه لم يتيسر للجيش الجورجي شن حرب خاطفة ضد أوسيتيا الجنوبية، إذ لم يستطع هذا الجيش حتى في النصف الأول من يوم الثامن من آب أغسطس، عندما كانت القوات الروسية بعيدة عن العاصمة الأوسيتية تسخينفالي، دخول المدينة واحتلال قسم كبير منها، إلا في المحاولة الثانية. كذلك، تورطت القوات الجورجية في حرب شوارع طويلة مع قوى أوسيتيا الجنوبية. وبعد أن دخلت وحدات القوات الروسية النظامية الإقليم، انقلب الموقف في غير صالح الجورجيين. وكان بوسع جورجيا، نظرياً، محاولة شن حرب "نظامية" من جديد، بالإيعاز لقواتها بالهجوم على تسخينفالي والمناطق المتاخمة. لكن مثل هذا السيناريو كان من شانه خسارة ما بقي من المعدات الحربية للجيش الجورجي. ويرى إيغور كوروتشينكو، عضو المجلس الاجتماعي التابع لوزارة الدفاع الروسية، أن الجيش الجورجي "قوة لا يستهان بها"، خاصة أن أفراده تلقوا تدريباتهم على أيدي مستشارين غربيين، كما تم تجهيزه تجهيزاً يفوق الجيش الروسي فيما يخص مناظير الرؤية الليلية ومستلزمات الجندي الشخصية. ويبلغ عدد أفراد القوات المسلحة الجورجية 33000شخص. وحسب وزارة الدفاع الأميركية، فإن روسيا أرسلت 8000إلى 10000جندي و 150دبابة و 300آلية مدرعة ونحو 100مدفع إلى أوسيتيا الجنوبية، وأرسلت 9000جندي آخرين إلى أبخازيا. وفي منتصف شهر أيار/مايو الماضي، سلمت أوكرانيا جورجيا 20دبابة من طراز "تي - 72"، وذلك في إطار صفقة شملت أيضاً مدرعات ومروحيات عسكرية. من جهة أخرى، وحسب موقع "ديبكا فايل" الإسرائيلي، فقد طلب الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي من شركات أمنية اسرائيلية تدريب أفراد القوات الجورجية الخاصة. ووفقاً لما جاء في الموقع، فإن نحو 1000مدرب إسرائيلي قدّموا خدمات لتدريب عناصر الجيش الجورجي ووفروا استشارات عسكرية للقوات البرية والجوية والبحرية. كما تلقّت عناصر الامن الخاص والاستطلاع العسكري الجورجي تدريباتٍ خاصة على يد مدربين إسرائيليين. ويبقى الرهان الجورجي قائماً على مدى المعونات التي سيقدمها الغرب للقوة العسكرية الجورجية في الفترة القادمة. وقد طلبت جورجيا رسمياً من حلف شمال الأطلسي ( الناتو )، في الثاني عشر من آب أغسطس،منحها مساعدات عسكرية لإعادة بناء منظومة الدفاع الجوي، التي قالت إن الطائرات الروسية دمرتها خلال الحرب الاخيرة. في الطرف المقابل، فإن الأمر الذي خدم الجيش الروسي هو سيطرته الجوية شبه المطلقة، وهو ما فاجأ القوات الجورجية التي انسحبت من مدينة غوري في يوم الاثنين، تاركة عتادها في أرض المعركة. وقد وجهت الطائرات الروسية ضربات إلى منشآت البنية التحتية العسكرية الجورجية، وخطوط الاتصالات، ومواقع تحشد قوات النسق الثاني، كما أجرت عمليات استطلاع واسعة.وعلى الرغم من ذلك، سقطت للروس أربع مقاتلات حربية، من ضمنها مقاتلتان من طراز سو - 25و تو- 22، وذلك بواسطة الصواريخ الجورجية المضادة للجو وقد رأى المحللون الروس أن خسائر الطيران الروسي لم تكن لتصل لهذا الحجم لو تم إسكات منظومة الدفاع الجوي الجورجية بصورة تامة. فقد واجه الجيش الروسي، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، دولة لديها منظومة دفاع جوي يُعتد بها. كذلك، انخرط الأسطول الروسي في معركة بحرية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قام هذا الأسطول بمحاصرة الشواطئ الجورجية لعدة أيام، تحسباً لوصول شحنات أسلحة للجورجيين من دول مثل أوكرانيا أو بلغاريا أو بعض دول البلطيق. وكانت وحدات الجيش ( 58) الروسي وصلت تسخينفالي في وقت مبكر من اندلاع الحرب.وفي وقت لاحق، لحقت بها وحدات فرقة "بسكوف" ال 76للإنزال الجوي بكامل سلاحها ومعداتها. وقد نقل المظليون بواسطة طائرات النقل الحربي الروسية إلى مدينة بيسلان في أوسيتيا الشمالية، ومنها توجهوا براً إلى أوسيتيا الجنوبية. وقصفت القوات الجورجية مواقع القوات الروسية في تسخينفالي براجمات صواريخ "غراد"، مما أدى إلى وقوع خسائر غير محددة بين أفرادها. واستهدف الروس، على نحو مبكر، تدمير معدات جورجيا الحربية المختلفة، وبنيتها العسكرية التحتية، وحرمانها من القدرة على شن عمليات حربية فعالة.فتم قصف المنشآت داخل جورجيا، وإزاحة قواتها تدريجياً إلى خارج حدود أوسيتيا الجنوبية، كما جرى إقامة ما يشبه الحزام الأمني حول الإقليم. وحدث الأمر ذاته بالنسبة لأبخازيا، حيث طردت القوات الجورجية من مرتفعات وادي كودوري، وهي المنطقة الوحيدة في الإقليم، التي كانت تحت سيطرة السلطات الجورجية. ودخلت قوافل من الآليات العسكرية الروسية إلى الأراضي الجورجية، منطلقة من أبخازيا في يوم 11آب أغسطس. وحسب وزارة الدفاع الروسية، فإن القوات الروسية التي استقدمتها أبخازيا لمواجهة هجوم جورجي محتمل كانت تضم أكثر من 9000شخص و 350آلية مدرعة. وقالت المصادر الجورجية، مساء الحادي عشر من آب أغسطس، إن قوات روسية احتلت مدينتي سيناكي وزوغديدي الجورجيتين، اللتين تبعدان 40كيلومتراً عن خط التماس بين جورجيا وأبخازيا.وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الجورجي إن أوامر صدرت للقوات الجورجية بمغادرة غوري والتخندق في مدينة متسخيتا التي تبعد 25كيلومتراً عن العاصمة تبليسي. وفي حال كان ذلك مؤكداً، فإن القوات الروسية قد قامت عملياً بفصل شرق جورجيا عن غربها. وتحدث الجانب الجورجي أيضاً عن خسائره المادية والبشرية على الأرض ، وقدر المتحدث باسم وزارة الداخلية الجورجية، شوتا اوتياشفيلي، عدد القتلى بالمئات. وإضافة للعواقب المادية والبشرية المباشرة للحرب،فإن جورجيا قد تعاني من مضاعفات اقتصادية بعيدة المدى، بحكم كونها دولة صغيرة ذات اقتصاد محدود، يعتمد في جزء اساسي منه على صادرات الحمضيات، الموجهة أساساً إلى السوق الروسي، كما يبلغ عدد الجورجيين المقيمين في روسيا نحو ثلث سكان جورجيا الحالي، وهم يقومون بتحويل مداخيلهم إلى أقاربهم في المناطق الجورجية المختلفة. وعلى الصعيد السياسي، فإن التسوية التي أنهت الحرب جاءت في مصلحة روسيا وحدها، ففي ختام المحادثات التي جرت في موسكو في الثاني عشر من آب أغسطس، بين الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، تم الاتفاق على وضع ستة شروط لتسوية النزاع الجورجي - الأوسيتي والنزاع الجورجي - الأبخازي، وهذه الشروط هي: عدم استخدام القوة، ووقف القتال، وفتح جميع المنافذ المتوفرة لوصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين،وعودة القوات الجورجية إلى المواقع التي انطلقت منها نحو اوسيتيا الجنوبية، ووصول القوات الروسية إلى خط ما قبل القتال، وبدء المناقشة الدولية لوضع أوسيتيا الجنويبة وأبخازيا المستقبلي. ونقل ساركوزي إلى الرئيس الجورجي سآكاشفيلي هذه الشروط، فوافق عليها، باستثناء بحث وضع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، أي إمكانية منحهما الاستقلال. وصرح ساركوزي إن هذا الموضوع سوف تتم مناقشته خلال جولة قادمة من المباحثات بين جورجيا وروسيا برعاية فرنسية. وعلى الرغم من ذلك، فإن قضية استقلال الإقليمين، ستطفو على السطح أكثر من أي وقت مضى، وإن روسيا قد تعترف بهما من جانب واحد، وتشجع على قيام نموذج قبرصي ثلاثي في جورجيا، تقوم هي بدعمه ورعايته. والأكيد أن البيئة السياسية للنزاع لن تعود كما كانت عليه الحال قبل الحرب الأخيرة. وعلى الصعيد الاستراتيجي، تتجسد إحدى تداعيات الحرب الأخيرة في تراجع فرص انضمام جورجيا إلى حلف الناتو، إذ أن حصولها على عضوية الحلف يعني أن على الدول الغربية إرسال قواتها، في وقت ما، للاشتباك مع القوات الروسية في القوقاز. ومن هنا، يرى البعض أن الأوروبيين الغربيين لن يسمحوا بحصول جورجيا على عضوية الناتو في المدى المنظور. إن الحرب الأخيرة في القوقاز قد أسفرت على نحو يقيني عن فظائع إنسانية وخسائر مادية جسيمة، لكنها لم تفرز أية مكاسب مؤكدة لأي من الأطراف.وهذه غالباً نتائج الحروب.