في يناير من هذا العام نشرت مقالا بعنوان (من أقدامهم يعرفهم) تحدثت فيها عن تجربتي مع (مدلك الأقدام الصيني) وكيف أثبت لي قدرته على معرفة طبيعة الناس ومشاكلهم الصحية من خلال تفحص أقدامهم ... وأرجو أن يثير هذا استغرابهم كوني شخصيا بدأت أصدق هذه الحقيقة بفضل تراكم الدلائل على أن أقدامنا تنبئ فعلا بالكثير عن صفاتنا الشخصية والنفسية والجسدية .. وتبرز أهمية القدمين في كونهما طرفين نهائيين لأشياء كثيرة (كالأعصاب والعروق) وتترجمان سلوك الجسم في المشي والحركة والتصرف .. كما أن وجودها في أسفل الجسم يجعلها عرضة لترسب كثير من السموم والافرازات العضوية الناجمة عن الأمراض (كارتفاع حامض البوليك في الدم) . أضف لهذا أن اتجاه القدمين، ومستوى تقوسها، وزاوية وضع الثقل، وطريقة رفعها عن الأرض تشكل في مجملها بصمة حقيقية تميزنا عن الآخرين ... ورغم تخلفنا بهذا الجانب إلا أن كثيرا من المجتمعات القديمة اعتمدت على فراسة القدمين لتشخيص الأمراض وتحديد الأنساب وتقييم الوضع النفسي للإنسان . وقد برع العرب خصوصا في قص الأثر ومعرفة النسب بمجرد النظر الى القدمين أو تحليل اثارهما على التراب. وكان هناك قوم من العرب يعرفون ببني مدلج اشتهروا بعلم القيافة وقص الأثر (من بينهم الصحابي الكريم مجزز المدلجي). وهناك قصة مشهورة حدثت في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم حدد فيها مجزز نسب أسامة بن زيد. فقد شاهد قدمي أسامة ووالده الحارثة تظهران من تحت اللحاف فقال "والله إن هذه الأقدام بعضها من بعض" - الأمر الذي جعل أساسير الرسول تنبسط فرحا. أما "قص الأثر" فقد برع به سكان البادية من العرب - كما برع به الهنود الحمر في براري أمريكا. فقد كانوا يعرفون من "طبعة القدم" جنس صاحبها وعمره ووزنه ومتى تركها.. وإن كانت امرأة يعرفون هل هي ثيب أم بكر، حامل أم نفساء، متزوجة أم مطلقة.. وحين يقابلون آثارا كثيرة - في طرق القوافل مثلا - كانوا يستطيعون حصر الأقرباء وإعادة الأطفال الى آبائهم. ورغم أن عملهم يعتمد في معظمه على القياس والخبرة إلا أنني شخصيا لا أستبعد دخول شيء من "القيافة النفسية" في أعمالهم. وهذا النوع من القيافة يدعى في علم النفس (السيكومتري) حيث يستطيعون الكشف عن هوية الأشخاص بمجرد لمس متعلقاتهم الشخصية أو التواجد في نفس المكان الذي تواجدوا فيه. وأصحاب هذه الموهبة يظهرون في كل المجتمعات ويساعدون الشرطة في حل الجرائم والكشف عن الاشخاص المفقودين.. وأذكر أنني قرأت لقاء مع قصاص أثر سعودي يدعى رمثان بن زيد الشمري (في مجلة الجديدة عدد 726) ساعد الشرطة على حل خمسمائة جريمة ولغز . فقد استطاع التعرف على قاتل اختفى عن وجه العدالة لعدة أعوام، ومجرم فعل الفاحشة بإحدى الراعيات في طريف - كما تتبع آثار عمال أجانب حاولوا تخريب محولات الكهرباء في رفحاء... ويقول رمثان الشمري أنه اكتشف في نفسه هذه الموهبة منذ كان يرعى الإبل في طفولته ؛ فقد كان يميز إبل والده عن الإبل الغريبة ويعرف وجهتها وزمن تحركها. ثم اكتشف لاحقا قدرته على تحليل آثار البشر ومعرفة أصحابها - بل والتفريق بين رجال القبائل. وكثيرا ماكان يتتبع آثار السارق حتى يصل الى بيته ويأمره برد ما سرق - قبل أن يخبر الشرطة.. ومن القصص التي ذكرها حادثة قتل أحد المواطنين في صحراء الشمال ثم حرق جثته - من قبل الجاني - لإخفاء معالم الجريمة. ورغم وجود آثار للقاتل إلا أنه لم يستطع ربطها بشخص معين لعدم وجود مشتبه بهم. وبعد أعوام استدعته شرطة رفحاء في قضية مختلفة تتعلق بسرقة أحد المنازل. وحين استعرض أقدام المشتبه بهم وجد بينها قدم القاتل - في الجريمة السابقة - فأبلغ الشرطة التي حققت معه فاعترف بجريمته!!