دعاني بعض الإخوة إلى الانخراط في حوار عن الليبرالية، من منطلق التساؤل عن مدى موافقتها للإسلام من عدمه. فلبيت النداء وانخرطت في حوار بدأ وكأنه يدور بين اتجاهين مختلفين، أحدهما يرى ضرورة عرض الليبرالية، كبنية مكتملة داخل بيئتها الغربية، على أصول الإسلام، فإن توافقت معه بكليتها أخذنا بها. وإن اختلفت فلا بد من إطراحها بكليتها أيضا. كانت الزاوية، التي انطلقت من خلالها لممارسة الحوار حول ذلك الموضوع الهام، أنه لما كانت الليبرالية، كبنية معرفية متكاملة، نشأت في الغرب وفقا لصيرورة تاريخية/ اجتماعية خاصة، كما كانت محطاتها التاريخية التي نشأت في كل منها نسخة مطورة منها قد نشأت وفقا لسياق ثقافي/ اجتماعي مختلف، فقد كان من رأيي، على متن ذلك الحوار، أننا لا نستطيع أن نقارن الليبرالية بالإسلام، إلا بأخذ مفاهيمها أو نُسخها كأجزاء منفصلة عن بعضها، ومن ثم مقارنتها بما يمكن أن يقابلها من مفاهيم إسلامية في المجال الذي يتحرك فيه الحوار. لكن الرأي الآخر رفض إلا أن نأخذ مفهوم الليبرالية، كبنية متكاملة، ثم نعرضها على تعاليم الإسلام العقدية منها والتشريعية، المقطوع بها وغير المقطوع، لنقرر على ضوء ذلك إن كان ثمة تعارض أم توافق بين البنيتين!!!. أنا، بالطبع، أدرك صعوبة استمراء أو تقبل المفاهيم العقلانية/ الفلسفية في أي ثقافة تعتمد، في مرجعيتها المعيارية، على العلوم النقلية فقط . لكن رفض تلك المفاهيم بالكامل لا يحل المشكلة، ولا يهدي للتي هي أقوم، في ظل العولمة المعاصرة. إضافة إلى أن طبيعة التلاقح الفكري بين الثقافات المختلفة يوحي بأنه لا مناص من إحلال آلية الاستيعاب (الجزئي) للمفاهيم لتكون الآلية التي تحكم العلاقات بين الثقافات المختلفة المتماسة منها بالذات، أستخدم هنا مصطلح (التماس) بدلا من مصطلح (الصراع) حتى لا ننساق وراء مفهوم (صدام الحضارات) الذي بشر به المفكر المعروف "صمويل هنتجنون"، والذي يجد رواجا لدى الدوائر المتشددة لدى كل من الجانبين. لماذا ندعو إلى إحلال آلية الاستيعاب الجزئي بدلا من أخذ البنى الفكرية بشمولها وكليتها؟ الجواب يكمن في أن البديل ليس غير واقعي فحسب، بل إنه غير ممكن، عدا أنه لم يتحقق تاريخيا. إذ لا يمكن الانكفاء على الذات وإغلاق الأبواب أمام الثقافات الأخرى بحجة ضرورة نقل المفاهيم كلها أو رفضها كلها اعتمادا على توافقها بكليتها مع بنية الثقافة المستوعبِة من عدمه، خاصة في هذا الزمن الذي تحول فيه العالم إلى قرية صغيرة تداخلت فيه الثقافات حتى ذابت خصوصياتها، أو كادت، من شدة التداخل العولمي. مع ذلك، وفي ظل ثقافة تحتكم عادة إلى الماضي التاريخي لاستنطاق الأسلاف عما كانوا قد عملوه في مثل تلك المستجدات، فكان لا مناص أمامي من استنطاق تاريخ أسلافنا عما عملوه عند مواجهتهم "ملمات" التداخل الفكري مع الثقافات المحيطة بهم آنذاك. وسيتفاجأ القارئ الموضوعي بأن استنطاق تاريخ أسلافنا ينبئنا أنهم كانوا أكثر حداثة منا في تعاملهم مع تلك الثقافات التي حاصرتهم حينها من كل جانب. لم يكد القرن الثاني من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ينتهي حتى كان المجتمع الإسلامي يموج بأجناس بشرية مختلفة الثقافات والمشارب والديانات. مما أدى إلى بروز أسئلة جديدة، طرحها الوافدون الجدد على الإسلام، تستدعي إجابات عقلانية، لأن الخصم حينها كان مستعدا للرد من داخل ثقافته/ ديانته هو متى ما طرح المحاورون أو المتصدون لأسئلته إجابات من داخل الدين الذي ينطلقون منه. كان الظرف حينها يستدعي إجابات تراهن على المخزون الثقافي العقلاني لإيجاد أسس مشتركة ينطلق منها الجميع. لأن طبيعة أسئلة الخصم، حينها، لم تكن قابلة لمقارعتها الحجة بالحجة إلا باللجوء إلى البنى الفكرية العقلانية أكثر من غيرها. وقد انضافت هذه (التطورات) الثقافية إلى الإرهاصات الأولى التي أخذ القائلون بالقدر على عاتقهم خلالها التصدي لانتشار أيديولوجية الجبر بنشر فلسفة حرية الإنسان واختياره الحر ضدا على الجبرية المزعومة. كما انضافت أيضا إلى "الكلام" في السياسة آنذاك: (البحث في أشكال الحكم الصالحة "المدينة الفاضلة للفارابي خاصة"). هذه "التطورات" الثقافية في المجتمع الإسلامي الأول اضطرت سلفنا الصالح إلى استدعاء "علوم الأوائل"، كما كانوا يسمونها آنذاك، والتي يسميها ابن خلدون ب "العلوم الحادثة في الملة" تمييزا لها عن تلك العلوم ذات الصبغة الإسلامية البحتة، لمجابهة الطارئ الجديد المتمثل في التصدي للأسئلة الغير نمطية التي كانت تثار في وجوههم عن الإسلام من قبل الأجناس الأخرى ذات الثقافات الأجنبية. وكانت الفلسفة اليونانية أبرز علوم الأوائل التي تم استدعاؤها إلى الوسط الإسلامي، أفلاطون في السياسة خاصة، وأرسطو في المنطق أول الأمر، ثم في السياسة لاحقا على يد ابن رشد خاصة. وفي كل تلك الاستدعاءات الثقافية، لم يكن السلف يدعون إلى أخذ بنية المفاهيم، التي كانوا يعملون على تبيئتها في المجتمع الإسلامي، كاملة بشموليتها، لا لأنهم ليسوا بحاجة لها كلها فحسب، بل لأنهم كانوا يعرفون أن استيعاب الثقافات الأخرى بكليتها وشمولها، لإدماجها كاملة في الثقافة الإسلامية، أمر لا يتفق والطبيعة البشرية، مثلما أنه أمر لا تنبئنا مسيرة التاريخ البشري أنه تحقق يوما. لنأخذ مثالين فقط من بين العديد من عمليات التبيئة الثقافية التي قام بها أسلافنا، لندرك كيف أن الاستيعاب الجزئي هو الأصل في العلاقة بين الثقافات المختلفة. المثال الأول من الفقه. كان أبو محمد بن حزم الأندلسي، قد ركز في مشروعه الفكري، على إعادة النظر في أصول الاستنباط التي وضعها الإمام الشافعي وخاصة منها "القياس البياني" الذي يعتمد على البحث عن أصل سابق ليقاس عليه الفرع الجديد، (النازلة الجديدة)، وحجته في ذلك، أعني ابن حزم، أن القياس، كما طرحه الشافعي، الذي هو عبارة عن إلحاق فرع بأصل، لا يكون إلا بين الأشياء المتماثلات، أما المختلفات فلا يمكن استخدام آلية القياس البياني لمقارنتها ببعضها. ونتيجة لقناعاته، التي برر لها بكل ما أوتي من حجة، فقد دعا إلى استبدال القياس البياني بالقياس الأرسطي، الذي يعتمد على وضع مقدمتين ضروريتين لينتج عنهما نتيجة ضرورية أيضا. وطبق دعوته تلك بأمثلة عملية قام خلالها باستخدام القياس الأرسطي لاستنباط الأحكام العملية من النصوص الشرعية. فعندما أراد تفسير قوله تعالى: (فإن يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث)، فسرها من خلال القياس الأرسطي، بقوله "وورثه أبواه فلأمه الثلث" (هذه مقدمة شرعية صغرى). ونحن نعلم يقينا بالعقل أن كل معدود يتكون من ثلث وثلثان (فهذا مقدمة عقلية كبرى). وإذا كان للأم الثلث، وهي والأب وارثان، فالثلثان من نصيب الأب (نتيجة ضرورية). المثال الثاني من العقائد. لما أراد حجة الإسلام أبو حامد الغزالي استخدام البراهين العقلية في إثبات التوحيد، لجأ إلى القياس الأرسطي، فأتى إلى بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن توحيد الله تعالى ليصوغها على هيئة قياس منطقي. فعندما أراد تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) لجأ إلى صياغتها على هيئة قياس منطقي بالقول: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (مقدمة شرعية صغرى). ومعلوم من الطبيعة أنهما لم يفسدا (مقدمة عقلية كبرى). فيلزم عنهما نتيجة ضرورية هي نفي وجود شريك مع الله تعالى. هذا يعني أن كلا من الغزالي وابن حزم قد استعملا القياس الأرسطي في مشروعيها الفكريين. رغم أنه، أعني القياس الأرسطي، جزء من منظومة المنطق الأرسطي، والذي هو، بدوره، جزء من بنية الفلسفة الأرسطية، مما يعني أن أيا منهما لم يكن يرى ضرورة أخذ المنطق الأرسطي بكامله، مثلا، لتبيئته بالثقافة العربية، أو على الأقل في مشروعه الفكري، ناهيك عن تبيئة الفلسفة اليونانية بكاملها. وقد استخدم كل منهما آلية القياس الأرسطي لدعم واستنباط الأدلة في قضايا مصيرية كقضايا العقيدة ومسائل الفقه . فإذ كان ذلك كذلك، فمن الطبيعي أن يكون تعاملنا مع المفاهيم الغربية المعاصرة وفقا لهذا الاستيعاب (الجزئي)، فنأتي مثلا إلى الليبرالية فننظر فيما تدعو إليه من حرية الضمير مثلا، وسنجد لها مقابلا من أصول الإسلام هو حرية المعتقد (لا إكره في الدين)، ولكننا لو أخذ نسخها الأخرى فلربما وجدنا فيها تعارضا مع بعض أصوله. وهذا ما يعني أن تعارض بعض جوانب الليبرالية، (تعارض الليبرالية الاقتصادية مثلا من خلال آلية دعه يعمل... دعه يمر)، مع بعض اتجاهات الفقه الإسلامي (الفوائد الربوية)، لا يعني اطراح جوانبها الأخرى التي تتوافق مع أصوله القاطعة. وعلى هذا النحو يجب أن نموضع علاقتنا الثقافية بالآخر. فلا اندماج كاملاً، ولا انكفاء على الذات.