ما أن تحرر الأوروبيون من سيطرة الكنيسة إلا وشرعوا يبحثون عن قوة لبناء الدولة العصرية. ولم يجدوا ذلك إلا في إنجاز بناء الوحدة القومية. لذا قامت الحروب في ألمانيا وايطاليا وغيرها من بقاع أوروبا ونتيجة لها تحولت الإمارات الصغيرة وانصهرت في دول قومية كبيرة توفرت فيها عناصر القوة والسيادة. وبعد أن استكملت دول أوروبا بناءها الداخلي وتوفرت لديها وسائل القوة المعتبرة في ذلك الوقت مثل بناء الأساطيل المسيرة بالبخار وامتلاك المدفع والبارود اتجه الأوروبيون خارج قارتهم. وكانت البدايات تتم من خلال القيام بحركات استكشافية اتبعوها فيما بعد بموجات من الغزوات التي عرفت بالحركات الاستعمارية. ومن خلال هذه الحركات الاستعمارية امتدت اذرع أوروبا إلى كل القارات. وبذلك تحول العالم كله إلى مستعمرات ومناطق نفوذ تتبع لهذه أو لتلك الدولة الأوروبية. وكما هو معروف في التاريخ فإن حركات الاستعمار كلها مدفوعة بأربعة أهداف رئيسية هي الحصول على المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة وفتح أسواق تستهلك المنتجات الأوروبية وأخيراً بسط النفوذ لضمان ديمومة الحصول على المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة والإبقاء على الأسواق مفتوحة لاستهلاك مصنوعات أوروبا. وكلنا نعلم أن بسط النفوذ واستمراره استلزم من المستعمر أينما كان في الهند أو في فيتنام أو أندونيسيا أو في الوطن العربي أو في القارة الأفريقية أن يدس شعار "فرق تسد". حيث إن تفعيل هذا الشعار أصبح المعول الذي يفتت به المستعمر قوة الشعوب من خلال زرع الفرقة للسيطرة عليها. ولما كان استيلاء أمة بالقوة على أخرى كما توضح حركة التاريخ أمراً فيه مهانة وفيه إذلال يكسر الكرامة ويذهب بالعزة، ترتب عليه ردود أفعال مقاومة تتحرك نحو طرد المستعمر وتحرير الأرض والإنسان ولو بعد حين. ومن أجل إذابة عنصر المقاومة أو تأخير يقظته طرح المستعمر هذا الشعار "فرق تسد" بهدف تفتيت مكونات اللحمة في البلد المستعمر وتفكيكها وتحويل عناصر القوة فيه إلى عوامل متناقضة متنافرة متناحرة يسهل بعدها على المستعمر قيادة البلد وإدارته. أما عوامل التفكيك التي يبحث عنها المستعمر فهي في الغالب موجودة في أي مجتمع. وهي إما أن تكون عوامل دينية في حالة وجود أكثر من دين في مجتمع واحد أو طائفية في حالة وجود الديانة الواحدة. وإما أن تكون عرقية أو قبلية أو ثقافية أو إقليمية وإلى غير ذلك من العوامل. ويلاحظ القارئ الكريم أن النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية في الوقت الحاضر قد غير كثيراً من شروط لعبة الاستعمار التقليدي. ووضع شروطه الجديدة التي منها تحكم وإشراف دولة المركز على حركة تدفق الأموال في العالم، والتحكم بالتكنولوجيا باسم حماية حقوق الملكية، التحكم في امتلاك السلاح المتطور، إضعاف أو تفتيت الدولة القومية والدفع بجحافل الغزو الثقافي عبر الحدود. ونلاحظ أخيراً اتباع أسلوب تفجير المجتمعات والدول من داخلها بمعول حقوق الإنسان عن طريق تثوير الأقليات العرقية كالأمازيقية في المغرب أو الطائفية في لبنان وعلى ذلك فقس من مبتدعات النظام العالمي الجديد. وتفجير المجتمعات من الداخل هو لا شك توظيف جديد لشعار الاستعمار القديم "فرق تسد" وغطاؤه الجديد "حقوق الإنسان" ومن العجائب أن آخر معيار غربي يضعه ويعتمده النظام العالمي الجديد هو معيار الاعتدال والتطرف الذي أصبحت توزن به الدول هذه الأيام. ذلك أنه بقدر ما تتنازل الدولة عن سيادتها وتقترب من سياسات دولة المركز "USA" تصبح دولة سلام يحق لها أن تتربع في كفة الاعتدال. أما من يتمسك بسيادة دولته ويفاوض على مصالح وطنه من منظور النظام العالمي الجديد يصبح من الدول المارقة ويوضع في كفة التطرف المنبوذ. ومن منظور النظام العالمي الجديد أيضاً أن النموذج اللبناني بتعدد طوائفه يعتبر نموذجاً مثالياً ولذا فإن لبننة بقية الدول العربية يصبح مطروحاً إذا نجحت تجربة التفتيت أو التركيبة الطائفية في العراق اليوم وفي السودان غداً والحبل على الجرار. وفي هذا السبيل يلاحظ المتتبع أن هناك تركيزاً مقصوداً في الغرب خصوصاً على دفن كلمة "الوطن العربي" واستبدالها بمصطلح الشرق الأوسط الجديد. وهدف ذلك فيما يبدو نزع أو إضعاف الشعور بالانتماء إلى الوطن العربي وبدلاً منه ننتمي إلى منطقة الشرق الأوسط الذي تصبح "إسرائيل" إحدى دولة الفاعلة والمرموقة. وإذا ما اختفى استخدام كلمة الوطن العربي وساد مصطلح الشرق الأوسط الكبير أو الجديد فإن جامعة الدول العربية يجب أن تختفي. بحيث لا تصبح بيتاً للعرب أو إطاراً صالحاً لحل مشكلات أقطاره. وإذا ما قيل لنا أن الجامعة العربية بدأت تفقد وزنها وبريقها وأنها لم تعد كما كانت بيتاً للتوافق العربي فإن هذا القول إلى حد ما صحيح. والقرار الذي يصدر عن الجامعة العربية كما لاحظنا أخيراً يلاقي في الغالب معارضة عند التطبيق من الدول الغربية خصوصاً ذات النفوذ ولذا رأينا تعذر نجاح أي حل للمشكلة اللبنانية تأتي به الجامعة العربية أو يصدر عنها بالرغم من مساعي أمينها العام وتعدد اجتماعات وزراء الخارجية العرب. وعندما خرج الحل عن دائرة الجامعة العربية إلى ساحة إحدى دولها الصغيرة حظي الحل الذي لا زال يتعثر بموافقة من الدول الغربية وتأييدها بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويلاحظ القارئ والمتتبع أن الحل الذي صدر عن الدوحة فيما يخص المشكل اللبناني ليس فيه جديد وإنما حمل في طياته مطالب تداولتها الموالاة والمعارضة في لبنان وسعى أمين الجامعة للتوفيق مراراً فيما بين الفريقين ولم ينجح. وكون الأمين لم يستطع أن يحقق نجاحاً في لبنان فإن العلة كما يبدو لا تكمن في الجرعة الدوائية التي يقدمها وإنما هي في المكان الذي يمثله وهي الجامعة العربية فهل يتخلى العرب عن جامعتهم مقابل مباركة يمنحها الغرب لتفرقهم؟!