الحدث الروائي بذاته، موضوع مهم في الرواية. حياتنا ملأى بالاحداث، منها الصغير ومنها الكبير، ومع ان المبدع قادر على أن يتخذ من أي حدث مادة مطاوعة لروايته، الا ان بعض الاحداث يكون نافلاً في رأيي، والاسباب في ذلك عديدة، فقد يكون، احياناً، حدثاً مادياً، وقد يكون، أحياناً اخرى، حدثاً مكرراً، وفي حالات غير قليلة يكون هذا الحدث مجتراً، في السينما أو في المسلسلات التلفزيونية، ولهذا ينبغي تجنبه.. انني لا اقدم نفسي نموذجاً يحتذى، فالمسألة، في نجاح الحدث ابداعياً، تتوقف على طريقة معالجته، الا انني، بعد كتابة ثلاثاً وثلاثين رواية، نأيت بنفسي، بقدر المستطاع، عن الاحداث المعادية، والاحداث الاجتماعية التي تدور حول الزواج والطلاق والنهايات السعيدة، ومع ان الحب، غالباً مادة ازلية ابدية في الابداع الأدبي والفني، فإن هذا الحب نفسه، يشكل صعوبة متناهية، لأن علينا، في معالجته، ان نأتي بجديد، بطريق، من زاوية، وواقعة غير مسبوقة شكلا ومضموناً. هذا في ما يتعلق بالحدث، لكن ماذا بشأن أبطال هذا الحدث؟ وماذا بشأن اسماء هؤلاء الأبطال؟ اننا نخسر كثيراً من قيمة الحدث، مهما يكن جديداً أو متفرداً، إذا لم نحسن انتقاء أبطاله، ولم نحسن، أيضاً، انتقاء أسماء الأبطال، وهذا مهم جداً، من وجهة نظر البيئة، ومدى ارتباط الاسماء، بهذه البيئة وليس بغيرها، فاسم بطل روايتي "الشراع والعاصفة" هو محمد بن زهدي الطروسي، وهذا الاسم ملائم لجو البحر الذي تدور احداث الرواية فيه، وملائم لريس بحري، وما كان ممكناً، أو مناسباً ان اسميه اندريه، أو عفيف، أو نبيل، أو جورج وقس على ذلك. اذن لكل حدث أبطال يناسبونه، ولكل بطل اسم يناسبه، والمسألة، بعد ليست اعتباطية، بل انتقائية، ودقيقة ومرهفة في انتقائيتها، وهي تتجاوز، عند وضع مخطط الرواية، الخصوصية إلى العمومية، ويبقى السؤال قائماً من أي معدن هذا البطل أو ذاك؟ ومن أي بيئة هذا الاسم أو ذاك؟ وما الشيء المميز في البطل واسمه؟ ما صفاته؟ ما عمله؟ في أي وسط ولد ذاك؟ ما حياته في الصغر والكبر؟ وهل بناء الشخصية الروائية، يتم خارج بناء السياق ام ينمو معه؟ وهل ننجح في عمل ما ابداعي؟، إذا اخذنا حدثاً جاهزاً، وشخصية جاهزة، وقلنا للقراء: تفضلوا طالعوا ما انتجنا، واحبوه لانه من صنعنا!؟ يقول ميخائيل باختين، في كتابه "الملحمة والرواية" ان الرواية تعبر أكثر من غيرها عن النزعات القائمة لبناء العالم الجديد.. وقد سبقت التطور المستقبلي للأدب.. واختيار المؤلف العالم المعاصر كنقطة انطلاق لتوجه فني جديد، لا يلغي ابداً تصور الماضي البطولي، دون تأثر بالتنكر.. ان سيرورة تشكل الرواية لم تنته بعد، بل تدخل الآن مرحلة جديدة، ومما يميز عصرنا التعقد الكبير، والتعمق العظيم للعالم، والنمو الهائل لمتطلبات الإنسان ولادراكه ونقده، وهذه الميزات هي التي ستعطي النوع الروائي تطوره اللاحق". ان المسألة ههنا، لا تتوقف عندما صنعنا، بل تتجاوز ذلك إلى السؤال: كيف صنعنا؟ ولان هذا الذي صنعناه يعبر أكثر من غيره، عن "النزاعات القائمة لبناء العالم الجديد" فان البيئة تلعب دورها في توفير الحدث، وهذا يلعب دوره في توفير البطل، ولابد للبطل من صفة واسم، وبذلك نعطي النوع الروائي تطوره اللاحق. لماذا علينا ان نفعل ذلك؟ حسب باختين لأن سيرورة الرواية لم تنته بعد، بل هي تدخل مرحلة جديدة" في عصر كثير التعقيد، وازدياد متطلبات الإنسان أصبح كبيراً، واذن علينا ان نرسم البطل رسماً دقيقاً، وان نبرز طموحاته بشكل دافئ. وقد قال أ.م، فورستر في كتابه جوانب الرواية "لا ارى داعياً لارتباط الرواية بوجهة نظر واحدة، حسب الروائي ان يثب بنا إلى الاقتناع بشخصياته، وان يقدم لنا الحياة، لأن الحياة تعطي الرواية" ولكي يقتنع القارئ ببطل الرواية، على الروائي، غالباً، ان يكون قد عرف البطل، وهذا صحيح من حيث الاساس. ان الحدث الروائي يكون واقعة، معاشة أو مسموعة، أو متخيلة، وفي حال سماعها أو تخيلها لابد للروائي، كي يلبي النزعات المتطلبة، ان يكون على معرفة بالبيئة التي حدثت فيها، ومعرفة بالشخصية التي ليست اكثر من نطفة، في رحم الدماغ تنمو وتتكامل، ثم لا تكون الا جنيناً عند الولادة، مبدعها، بعد ذلك، هو الذي ينميها ينشئها، يدعها تترعرع في شرطها البيئي والاجتماعي، يعطيها ملامحها، اسمها، يترجم عن تفكيرها، يعبر عن نزعاتها التي هي إلى ازدياد حسب باختين، ويجعل من حياتها حياة كاملة، لكي يقتنع القارئ حسب فورستر، بان ما يعيشه البطل حقيقة، أو يقارب الحقيقة، أو هو على الاقل، في دائرة الممكن، وان اختيارنا العالم المعاصر كنقطة انطلاق، لا يلغي تصور البطل في ماضيه، وفي صيرورته مؤهلاً لدخول مرحلة جديدة، من واقع جديد يسهم في تغيير العالم المحيط به. زكريا المرسنلي، بطل روايتي "الياطر" إنسان عجيب، قتل زخر يادس وهرب إلى الغابة، ليعيش بعيداً عن متناول رجال الأمن، انه نصف إنسان ونصف وحش، وقد تأنيت كثيراً في اعطائه اسم زكريا، كي يأتي منسجماً وصفات الصياد الذي كأنه، قبل ان يربط بالحوت الذي كان يتبع السفن، وجاء معها ليرتطم بالصخور ويشحّط على الشاطئ.. فهل كان زكريا، في الحياة واحداً من ابنائها، أم انه من نسيج الخيال وحده؟ زكريا كان، في الواقع، شخصاً يدعي ابو خضور، وهذا كل ما عرفته عن اسمه، كان يعيش في اللاذقية، عاملاً في قبو لتقطير الكحول، يمشي حافياً، متوحشاً، يسكر بغير انقطاع، أي: كان من حيث تكوينه الفني، نطفة لا أكثر، اما الحدث، فانه في واقعة ظهوره، في مدينة اسكندرونة، في اللواء العربي السليب، وكانت شكيبة راعية، وهي امرأة تركمانية عرفتها في اوروبا، ومن كل هذه المواد الاولية، بنيت رواية "الياطر"، في جزئها الاول، الذي لم يُكتب جزؤه الثاني بعد، لكنني بنيتها، أي الرواية، وأنا اعرف بيئة المدينة التي ظهر فيها الحوت، وبيئة اللاذقية التي رأيت فيها ابو خضور، وكذلك بيئة شكيبة التركمانية، في القرى الواقعة في منطقة البسيط أو ضواحي اسكندرون، اضافة إلى ان الحدث، والشخوص في "الياطر" هم البديل الموضوعي لتصوري عالم الغابة، وعالم التحول البشري من الوحشية إلى الإنسانية، في ظروف وشروط محددة. زكريا، في الغابة، لم تكن له وجهة نظر واحدة، الحياة، في هذه الغابة، هي التي اعطته وجهة نظر، قوامها ان يكافح ليعيش، وقد كافح، وعاش، وحين ظهر حوت آخر، في ميناء المدينة، يصعد رغم الخطر الذي يتهدده، ليربط الحدث الثاني، في فعلته هذه، بعد ان حوّلته شكيبة من وحش إلى إنسان، يسهم بعفوية، في بناء العالم الجديد، إذا ما عرفنا ان الحوت هو رمز الاجنبي، الفرنسي، الذي جاء غازياً ومحتلاً لسورية. هذا ما اسميه دلالة الحدث، بعيداً عن المباشرة، والوعظ والارشاد، وهذا ما ينطق على قول باختين، "النزعات النفسية القائمة لبناء عالم جديد" في كل رواية.