إن ما يجعل الغناء عالماً يتحدى إنهاك العقل والروح والنفس في الحياة ومكابدتها بأنه يطلق في الصوت حالة توازنه على مستوى من الحياة المطلقة من التشويه والتلويث بكل ما في المجتمع من أمور تستهلك الشعور وتستنفد الطاقة وتدمير حيوية الإنسان. لحظة الغناء العليا - وليس من أي موهبة تصلها! - هي حالة خروج واستعادة في ذات الوقت. وما يمكن يبدد تلك اللحظة في الغناء هو الاعتياد على حالة من الرتابة والتكرار في دائرة واحدة تضعك في كل ما يدعو إلى الالتباس في الشعور والحركة. وبعض الأصوات المغنية تضعك على حد الرتابة لكونها تستكفي باللون الواحد المعتمد على نتيجة من جمع عناصر وأفكار واحدة تتكرر، وهذا ما نجد عند ماجد المهندس المغني العراقي الذي يظهر من بين أكثر من صوت عراقي يجاهد ليبقى في معترك فني عربي. الغناء العراقي حالات بين الغناء العراقي التقليدي (المقام العراقي) عند حسين الأعظمي وفريدة محمد علي، والغناء الريفي عند رضا العبدالله وعادل مختار، وهناك غناء لا يستحق أن يذكر، وهناك حالة كاظم الساهر التي تجاوزت الكثير لتكون عراقية - عربية اعتمدت على أغنية عربية حداثية. ومن دلالات تلك الرتابة الغنائية عند ماجد المهندس هي حالة تكوين شريطه الغنائي تحت إشراف واضح من شركة روتانا المنتجة له. برغم ما توحي به بعض أغنيات سابقة صور لفضائية روتانا، مثل أغنية: والله واحشني موت (لحن المهندس)، بين إيديا (لحن المصري محمود خيامي)، وهناك أغنيتان أعادهما من غناء الثمانينيات في العراق: جنة جنة، قوة قوة. وما الذي تبقى في الشريط؟ مثلما حدث في الشريط السابق يحدث في هذا الشريط فهناك أغنيات كثيرة كتبها الشاعر والمخرج فائق حسن ولحنها ملحنون مختلفون منهم كاظم الساهر، وهناك أغنية من الملحن السعودي ناصر الصالح وأخرى من عبدالرب إدريس، ومن مصر أحمد يحيى (أغنية مصرية) وغيرها. الأغنية عنوان الشريط "إنسي" (كلمات: فائق حسن، لحن: محمود خيامي) ستجرنا إلى أغنية: بين إديا، لنفس الشاعر والملحن، بقدر ما للمحاولة من توفيق في المرة الأولى أن يوضع لحن من مصري لشعر عراقي إلا أنه تنكشف تلك الفجوات بين استيعاب اللهجة لدى الملحن إزاء ما يمكن أن يجبره غناء المهندس لكونه صاحب اللهجة حين تسجيل وتنفيذ الأغنية، فلم يستطع اللحن برغم جماله تعبيرياً أن يستوعب مزاج كلام الأغنية: "إن كل الناس خليني أحضنك/غمض عيونك وإنسى بحضني نفسك/إنسي عمرك وإنسي عمري/امتزج بيّضا وصير عطري". كلامٌ جميل ولكن اللحن لم يلامس إلا الحد الأدنى. ربما الملفت هو عمل المهندس والثنائي تركي - طارق محمد، وقد أخذت أغنية الأخيرين منحى في أغنية تعتمد بناءً متبايناً بين الطول والقصر، وحالة بين التعبير والتصوير، وتبقى محاولة تحاول أن تختلف، وهذا ما بدا منذ أغنيات أولى مع أنغام ونوال ثم ذكرى وعبدالمجيد عبدالله وفضل شاكر وآخرون. أغنية: "ليه" لتركي وطارق محمد تخرج من إطار الرتابة، برغم أن المزاج اللحني والتركيب الشعري بات يتخذ شخصية متضحة لصانعي أغنية سعودية متطورة ومتغيرة تعبر عن قلق جديد في الأغنية الخليجية وربما العربية تحاول أن تخرج من أسر الرتابة والتكرار. ربما نذكر "تفاصيل" لنوال و"هذا إنت" لذكرى، وهذا كلام أغنية المهندس الجديدة: ليه أنا مجروح وأنا جارحك؟ ليه أنا مشتاق وأنا تاركك؟ ليه أنا مدري وأنا دايم أكيد؟ ليه أنا مقبل وأنا دايم بعيد؟ ليه أنا ندمان لحظة ما يفيد؟