تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال الذي نشر الاثنين الماضي (العدد 14574)، حول كلمة سمو أمير منطقة مكةالمكرمة في ورشة عمل "مستوى الخدمة المقدمة لضيوف الرحمن"، والتي عبرت بكل وضوح وشفافية عن مكامن الخلل والضعف لدى العديد من الدوائر الحكومية في طريقة إدارتها وتقديمها لخدماتها لضيوف الرحمن. وأوضحت في تلك المقالة جانب من الضعف لدى الأخوة في رئاسة شؤون الحرمين الشريفين، والقصور في إدارة الجانب التنظيمي لزوار الحرمين. أما في هذا الجزء.. فسأخالف توقعاتكم!!، ولن أناقش جوانب الضعف في الخدمات الفندقية لضيوف الرحمن.. ولن أتحدث عن القصور البين في مراقبة البلديات للمخالفات التي تشاهد يوميا من قبل منافذ البيع، أو مستوى النظافة (خارج نطاق الحرم المكي).. ولن أناقش تلاعب بعض مؤسسات الطوافة بضيوف الرحمن، أو تنظيم حركة المواصلات، فتلك الأمور واضحة وجلية أمام الجميع!!. ولكن..استأذنكم لمناقشة القضية من بُعدٍ وزاوية حرجة للغاية!! نحن في المملكة بأمس الحاجة إليها، وذلك لمواجهة الهجمة الإعلامية الشرسة والمتعددة الأطراف لتشويه قيم وثوابت المجتمع السعودي ودينه في الدول الغربية، نتيجة الأحداث التي حصلت ولا زالت تحصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهو بُعدٌ ثقافي وفكري إعلامي!!، له اهتمام من قبل أمير مكةالمكرمة ممن يرعى العديد من المبادرات الفكرية والثقافية والإعلامية، والدعوة إلى الحوار مع الآخر. فأقول في هذا البُعد، أن مكةالمكرمة تتميز بتظاهرة فريدة من نوعها، عالمية بكل معانيها وقيمها، تتجلى سنويا في الحج، الذي يمثل تجمّعاً عالمياً إنسانياً واجتماعياً ثقافياً لا مثيل له في العالم بأسره؛ يجتمع فيه أطياف البشر بصنوفهم ومشاربهم. فجديرة - تلك التظاهرة - بأن تستثمر إعلامياً وثقافياً لإيضاح الإسلام بأنصع صوره، وأروع مُثُله، في العدالة والمحبة والتكاتف بين شعوب العالم. أو لنقل بصورة أكثر عمقاً استثمارها لما أسميته في مقال سابق لي في هذه الصحيفة العام الماضي في عددها 14373بمفهوم "عولمة الحج إعلامياً"!!، بما يضمن وصول رسالة إعلامية صادقة ومشرقة عن الإسلام (ومن ثم عن بلد الحرمين الشريفين)، وتحديدا لغير المسلمين. وسوف أقتبس عدداً من الأفكار التي طرحتها في ذلك المقال بشكل مختصر في بقية مقالي هذا. ويمكن تلخيص مفهوم "عولمة الحج إعلاميا" بأنه مجموعة استراتيجيات وبرامج إعلامية وثقافية، وأخرى أكاديمية، تسعى للوصول لأكبر شريحة ممكنة من شعوب العالم لتعريفهم بالإسلام وعالميته، من خلال تعريفهم بالحج وأهدافه ومضامينه وتاريخه، وتحديدا جوانب المساواة والعدالة وتلاحم الأمم فيه. إن "عولمة الحج إعلامياً" تستدعي حشد العديد من الإمكانات والموارد بعيداً عن الأطر التقليدية التي تستخدمها وزارة الإعلام لتعريف العالم بهذا الحدث السنوي!!. ويكفي متابعة بسيطة للقنوات الإعلامية للوزارة لنعرف مدى التواضع في نقل شعائر الحج كماً وكيفاً؛ يضاف لذلك الضعف في الاستراتيجيات الإعلامية المتعلقة بنشر الإسلام وصورته الحقيقية، في ظل هجمة شرسة إعلامية متعددة الأطراف لتشويه الإسلام وقيمه وثوابته في العالم. أو ليس هذا التجمع أعظم فرصة لوزارة الإعلام أمام العالم أجمع لعرض قيم المجتمع السعودي المستمدة من عظمة الدين الإسلامي؟.. دين التسامح والرحمة والمساواة والعدل. فلنتصور أن وزارة الإعلام عدلت عن إستراتيجيتها الثقافية المحصورة في نقل المسلسلات والأفلام والأغاني العربية والغربية!!، التي يغلب عليها تمرير الجانب السيئ من النمط الغربي، ومواجهة بعض قيم وثقافة المجتمع السعودي، متناسية أنها في بلد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي، ومحط أنظار الشعوب الإسلامية، التي تنتظر أن يكون الإعلام السعودي ممثلاً للإعلام الإسلامي الذي يتميز بحداثة الأسلوب وحرفية العمل، والمزج بين التشويق والجاذبية، لينافس القنوات الفضائية بعزة قيمه، وسمو مبادئه. لنتصور أنها عدلت عن تلك الإستراتيجية، إلى إستراتيجية من نوع آخر، تتوافق - بشكل جلي - مع ثقافة المجتمع والسياسة التي تقوم عليها بلد الحرمين الشريفين. فوفق خطة إعلامية متقنة لعولمة الحج ، تصدر الوزارة فيلما وثائقيا، ذا نظرة إعلامية ثاقبة، وتقنية عالية، ليُعرض في أشهر دور السينما في العالم ويروج له بسعيه لنشر الحب والإخاء بين الشعوب. يتحدث حول قصة إبراهيم عليه السلام من مبعثه حتى بناء الكعبة، كما يعرض حجة الوداع لنبي العالمين صلوات الله وسلامه عليه، بكل ما تحويها من أبعاد هي آية في الدعوة لنشر الحرية الحقة والعدل والإخاء في البشرية. حيث نسعى من هذا الفيلم الوثائقي إلى تشكيل صورة جلية للإسلام، وتقديم دعوة مؤثرة عميقة لأهل الكتاب والملحدين والوثنيين لإعمال العقل والفكر والعودة للفطرة الجِبلّية لدى الإنسان في بحثه عن الإله الحق. وكما أشرت في مقالي حول عولمة الحج، أن هذه العولمة تستدعي إقامة برامج إعلامية وثقافية وأخرى أكاديمية يشارك فيها العلماء والدعاة والإعلاميون والأكاديميون بشتى تخصصاتهم وجنسياتهم. ومن أبرز الجوانب الإعلامية لعولمة الحج، إنشاء قناة فضائية إعلامية دائمة للحج تبث برامجها بلغات عالمية مختلفة. يكون من أهدافها الأساسية التعريف بالحج ومقاصده لغير المسلمين، ليكون ذلك مدخلا للتعريف بالإسلام من خلال برامج متنوعة، ما بين مقابلات وبرامج وأفلام وثائقية، ونقل مباشر لوقائع الحج، بأسلوب مهني احترافي شيق بعيد عن الأطر التقليدية. على أن يُستقطب لهذه القناة مجموعة من الإعلاميين المحترفين من جنسيات مختلفة لضمان ظهور القناة بصبغة عالمية شعوبية. يضاف إلى ذلك وضع خطة دعائية فعالة للترويج لهذه القناة من خلال القنوات الإعلامية الغربية وغيرها ذات الشهرة العالمية. ومن البرامج المقترحة في هذا الجانب، إنشاء مركز إعلامي عالمي، خلال فترة الحج، يُدعى إليه مجموعة من أبرز الإعلاميين على مستوى العالم من محرري صحف ومجلات ومقدمي برامج، على أن يكون مقره مدينة جدة ليتسنى دعوة الإعلاميين غير المسلمين. ويفترض أن يقدم المركز برنامجاً إعلامياً متكاملاً يتضمن التعريف بالإسلام ومحاسنه، وكذلك التعريف بشعائر الحج ومضامينه. يضاف لذلك تقديم خدمة بث مباشر على مدار الساعة لشعائر الحج، مع ترجمة متعددة اللغات تتزامن وهذا البث موجهة للإعلاميين، وتوفير خدمة للالتقاء على الهواء مباشرة مع الحجيج والتحدث معهم. كما يفترض أن يشتمل البرنامج ورش عمل، يشارك فيها أولئك الإعلاميون مع عدد من الدعاة وطلبة العلم من جنسيات مختلفة ممن يجيدون أساليب الحوار والإقناع، أو بشكل أوضح ممن يجيدون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة!!، وذلك لمناقشة أبرز الاتهامات التي توجه للإسلام كالإرهاب وامتهان المرأة وتوضيح القضايا المتعلقة بالجهاد. ولا شك أن وجود موقع للإنترنت مصاحب للقناة الفضائية وفكرة المركز الإعلامي للحج سوف يعطي بعداً إعلامياً أعمق. أعلم يقيناً (وكما قلت في مقال عولمة الحج) أن حديثي هذا يؤلم الكثير من القائمين على هذه الوزارة ولكنه الواقع المرّ!!. والعتب هنا ليس محصوراً في وزارة الإعلام وحدها، بل - أيضاً- على وزارة الحج ووزارة الشؤون الإسلامية اللتين ترزخان (في معظم أحوالهما) تحت وطأة الأنماط التقليدية في الدعوة والتعريف بالإسلام. فالإعلام سلاح سياسي وثقافي وديني، يمكن أن يصل بقيمنا ومبادئنا لجميع أصقاع العالم، بل ويقنعهم بها متى ما خطط له بأسلوب مهني احترافي. أو ليس من المؤسف والمخجل - حقا - أن لا تمتلك وزارة الإعلام قناة مرئية إسلامية عالمية واحدة لتبيان قيمنا وثوابتنا الإسلامية وروح المحبة والإخاء، في حين أن قسا نصرانيا في الولاياتالمتحدة يمتلك عشرات القنوات الإعلامية!! ندائي لوزارة الإعلام أثناء موسم الحج!! بأن تعيد صياغة استراتيجياتها وخططها وبرامجها بما يتوافق والمرحلة الحرجة التي يمر بها المجتمع السعودي، وما تواجهه الأمة الإسلامية من انهيار عقدي وأخلاقي لسنا بمعزل عنه، مقابل الامتهان الصارخ، والتشويه المتعمد لقيم مجتمعنا السعودي الإسلامي من قبل العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية. @خبير تعزيز الصحة