أوردت جريدة "الرياض" في عدد الأثنين 2008/4/28، تحقيقا بعنوان "خبير اقتصادي يقترح مواجهة التضخم..." وقد نسبت الجريدة إليه قوله "ليس للسياسة المالية والنقدية علاقة بالتضخم...". القول بأنه لا علاقة للسياسة المالية بالتضخم غير صحيح بتاتا، ولا يقول به أي متخصص في الاقتصاد، وطبعا فإن المقصود، كما يدل السياق، هو تضخم بلادنا وسياستها المالية. ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، فما قيل عنه أنه خبير اقتصادي هو أحد أساتذة المحاسبة في احدى جامعاتنا، وكان الأولى أن يقال بأنه خبير محاسبي. ومن واجبات الجريدة تحسين الوعي والثقافة لدى الناس. من المؤكد (يعني المسألة ليست وجهة نظر) أن الارتفاع الحاد لانفاق حكومات مجلس التعاون منذ 2004سبب رئيس لموجة التضخم الحالية، ولكنه ليس السبب الوحيد. حيث إن التضخم (المعبر عنه بالانجليزية بكلمة inflation) يعني الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، وبعبارة مكافئة الانخفاض المستمر في قيمة النقود، فإن هناك قناعة بين علماء الاقتصاد بمختلف مدارسهم بأن التضخم (الداخلي، أو الخارجي في موطنه) ينشأ من جراء تفاعلات بين متغيرات اقتصادية أهمها النقود (كميات النقود المتاحة بيد الناس، وبالذات النقود الورقية والحسابات البنكية)، والإنتاج طلبا وعرضا. لنبدأ بعلاقة النقود هناك علاقة ثابتة بين أربعة عناصر: الانتاج Y، والمستوى العام للأسعار P، وكمية النقود المتاحة في الاقتصاد M ، وسرعة دوران أو تداول الأيدي للنقود V. والمعادلة التي تربط بين هذه المتغيرات هي: PY = MV وهذه المعادلة تعني أن كمية النقود الموجودة في اقتصاد ما مضروبة في سرعة دوران النقود = الأسعار مضروبة في كمية السلع والخدمات. وتبعا لذلك لو ضربنا كافة الأسعار بالكميات المشتراة من السلع والخدمات (في اقتصاد ما مثل اقتصاد المملكة، وخلال فترة زمنية محددة عادة سنة) فإن الناتج لابد بالضرورة أن يساوي كمية النقود المتداولة مضروبة في سرعة دورانها. علاقة الطلب زيادة كمية النقود لا تأثير لها بطبيعة الحال على الأسعار إذا بقيت دون انفاق، أما إذا تحولت إلى طلب (عبر تداول النقود v) أي وجدت بيد الوزارات والمؤسسات الحكومية والشركات والمؤسسات الخاصة وأفراد المجتمع بغرض إنفاقها، فإنها وبصفة عامة وبعبارات مبسطة، ترفع مستوى الأسعار، عندما تكون نسبة الزيادة في كمية النقود أعلى من نسبة الزيادة في السلع والخدمات. أو ما معناه "نقود كثيرة مقابل سلع قليلة". ارتفاع الطلب له أكثر من سبب وسبب، ولكن أقوى سبب في الدول النفطية الخليجية هو ارتفاع الإنفاق الحكومي. لماذا؟ لأن اقتصادات هذه الدول تعتمد بعد الله على النفط أكثر من غيره، وهذه مسألة معروفة للقاصي والداني. ولكن كيف يكون هذا الاعتماد؟ عبر الانفاق الحكومي، لأن إيرادات النفط في الدول الخليجية تستلمها الحكومات، وليس القطاع الخاص، ولا تأثير لها على الاقتصاد المحلي بدون أن تنفق. الإنفاق الحكومي له تأثير مباشر وتأثير غير مباشر. التأثير المباشر يأتي من زيادة الطلب الحكومي المباشر على السلع والخدمات. والتأثير غير المباشر يأتي من جراء اعتماد الأنشطة بعضها على بعض، فالحكومة تشتري سلعا وخدمات، وتتعاقد مع مقاولين لتنفيذ مشاريع، وتقديم خدمات صيانة، وتدفع رواتب لموظفيها، وكل هؤلاء يشترون من مزودين آخرين وهكذا، في إطار مضاعفات. خلال الفترة منذ 2004، ارتفع الطلب الكلي بسرعة أكبر من الإنتاج الكلي، وكان أحد أسباب انجذاب الأسعار إلى أعلى. وبلغة الأرقام: زاد الإنفاق الحكومي من حوالي 260ألف مليون ريال عام 2003، إلى ما يقارب 470ألف مليون العام الماضي (2007)، أي بنسبة زيادة معدلها 20% سنويا، ولم تكن مصدر هذه الزيادة ضرائب على السكان بحيث تكون العملية انتقال المال منهم إلى الحكومة دون تغيير ملموس في إجمالي الطلب، بل مصدر هذه الزيادة مبيعات النفط ومشتقاته إلى الخارج، وهذا فرق جوهري بين الدول الخليجية المعتمدة على مصدر ثروة طبيعي يصدر معظمه أو جزء كبير منه، وغالبية الدول الأخرى، حين مناقشة علاقة السياسة المالية بالتضخم. وخلال الفترة نفسها، ارتفع عرض النقود M3 من 417ألف مليون، إلى 790الف مليون، أي بزيادة معدلها السنوي 22% تقريبا، بينما نما الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي من 686الف مليون إلى ما يقارب 815ألف مليون، أي بمعدل زيادة سنوي في حدود 5% خلال الفترة نفسها. المصادر: موقع مؤسسة النقد وموقع وزارة الاقتصاد. ماذا يعني ذلك؟ توفرت السيولة، وتوسع الانفاق الحكومي (وغير الحكومي) بما يتجاوز بوضوح طاقة الاقتصاد الاستيعابية، وهذا سبب رئيسي من أسباب التضخم. أحد أهم أسباب كون طاقة استيعاب الاقتصاد دون المؤمل انخفاض الانفاق الاستثماري الحكومي (مثلا على البنية التحتية ومشروعات المرافق العامة) من نحو 25% من مخصصات الميزانية في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي إلى نحو 7% في أواخر التسعينات. ومن يرغب التوسع في فهم التضخم، فله الرجوع إلى مقالاتي الطويلة التي نشرتها جريدة "الرياض" في 13و 14و 17و 26يناير 2008.هذا، وبالله التوفيق،،، @ بكالوريوس في الشريعة، دكتوراه في الاقتصاد، متخصص في الاقتصاد الكلي والمالية العامة