الرحلة الى جازان رحلة يشهد القائم بها نمطا مختلفا من الفعل الثقافي الحي المتحرك، يشهده متجسدا في الإبداع وفي الاشتغال له، ابداعات منوعة في إنسانه، تمتد من تأريخ خصب بالثقافة، وتأزر الى حيوية ابداعية متجددة، يأسرك فيها أنك ترى الألسنة تصدح بالوعي، وتتجاوز بالمعرفة، وتقف على كنز من تجليات الحب والروح. الأسبوع السالف كنت وأخي العزيز الدكتور عاطف بهجات مطوقين بفيض جازان الذي لا تحده حدود، ولا تبلغه تصورات، في النادي، في كلية المعلمين، في صبيا، في سامطة، في كل بقعة من جازان حضر الينا ذكرها عبر الأوفياء والأحبة لمنطقتهم. ما إن تمت بيني وبين الأخ الصديق الأستاذ ابراهيم صعابي المشاورات على تقديمي محاضرة بنادي جازان الادبي، حتى بلغ بي الشوق مداه للقاء ذلك الجمهور الواعي. ورأيت أن من الحكمة الحديث اليهم والحوار معهم عبر بوابة الأسئلة، ليكون الأفق عصفا ذهنيا لطاقات وقدرات لها إبداعاتها، وملامساتها لأسئلة الإبداع والثقافة.. فكان العنوان الذي اقترحته لمحاضرتي (أسئلة القصيدة الجديدة). توكلت على الله وحملت أسئلتي الى جازان، ما ان وصلت الى المطار في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء حتى وجدت ما كنت أسمعه عن كرم أهلها وتعاضدهم واقعا حيا، وجدت في استقبالي بالمطار خمسة من الأخوة الكرماء ما بين عضو مجلس ادارة بالنادي، او متعاون معه، او مهتم بالإبداع والثقافة؛ حيث وجدت الأخوة مع حفظ الألقاب: ابراهيم الصعابي، خالد ربيع الشافعي، عبدالرحمن بهكلي، أحمد عداوي، مهندي السروري.. حملوني بين جوانحهم وفي دواخل قلوبهم، وقبل أن يتركوني بالفندق آنسوني بأحاديثهم العذبة، وبحديثهم عن المنطقة وما تمر به من حراك تنموي على صعد مختلفة، وخصوصاً الجانب الثقافي بحديث مستفيض يشعرك بتنوعه وتعدد الجهات التى ترعاه وتتحمس له،.. عبرت لهم عن شكري، وشعوري بالفرح حين شاهدت صورة معاشة كنت أعدها حلما، حيث أعرف ان بعض انديتنا بالكاد ترسل أحداً لاستقبال الضيف يذهب متبرما لأداء مهمة من مسؤولياته، هذا ان لم يضع امر استقباله والترحيب به بين اللجان والمسميات المختلفة. أراد أن يصحبني أخي الصعابي في جولة منذ الصباح الباكر، فاعتذرت لشعوري بالإرهاق، وجاءني عند التاسعة والنصف، من صبيحة يوم الاربعاء الموافق 1429/4/24ه، وذهبت برفقته الى كلية المعلمين تلبية لدعوة كريمة من عميدها الأخ الصديق الدكتور حسن حجاب الحازمي، فمنذ أن صافحت عيناي باب الكلية رأيت مشهداً مختلفاً علي؛ إذ رأيت إعلانا على لوحة قماشية كبيرة عن المحاضرة، مما يكشف مدى التعاون والتواصل بين النادي ومراكز التجمعات الثقافية والشبابية، وهو ما لا نجده في كثير من مناطق ومحافظات الاندية. لن أحدثكم عن كرم الاستقبال، وفيوض الروح، وحفل الشاي بقسم اللغة العربية، والاستقبال الذي غمرني به مع عميد الكلية ومرافقي، وبعض الأساتذة، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، ومائدة الغداء التي حلق بي في فيوضها بشاشة العميد وزملائه الكرام، وسأجاوز ذلك الى ما وجدته في قسم اللغة العربية، من تواصل مسؤول مع الحركة الثقافية والابداعية في حيويتها وحراكها المشهود، فتجد الطلاب يدربون على مناهج التحليل النقدي الحديثة، وتبرز جهودهم في ردهات الكلية، يحاورون النصوص ويستنطقونها تحت اشراف أساتذتهم البارعين في ذلك، ومن حسن حظ الكلية، أنها حظيت بنخبة مميزة من الإخوة المتعاقدين، ومن أبناء المنطقة، تشهد لذلك مشاركاتهم المختلفة، في المحاضرات والندوات الثقافية التي تقام في المنطقة، وفي المناطق الأخرى من الوطن، وأحيانا خارج المملكة، ولذلك لم تكن الأسماء التي وجدتها هناك غريبة علي، فقد التقيت بالكثير منها في ملتقيات ثقافية، وقرأت لها.أقول هذا، وتتوارد الى الذات حسرة من نمط شائع من الكليات في جامعاتنا تنكفئ عن الحراك الثقافي الحي، وتنحصر جهود أساتيذها في تلقين من قدر عليهم أن يكونوا طلاباً لهم معلومات لقنها هؤلاء في تتلمذهم، ولم يضيفوا اليها شيئا، ولذلك تجد جعبتهم وهم يدخلون محاضراتهم لا تحمل سوى شوقي ضيف، ومحمد غنيمي هلال، وعبدالله الطيب، والأسماء الأدبية الثقافية التي يصافحون بها آذان طلابهم لا تجاوز: أحمد شوقي، حافظ ابراهيم، الجواهري، الرصافي، فصموا آذانهم عن الفعل الثقافي الحي، وحركيته، والنظر المتجدد الى النص، والمنجز الابداعي على مستوى الثقافة العربية، والثقافة المحلية. وفي المساء قبيل المحاضرة، كانت خطوات أخي الدكتور عاطف تشرق بجازان؛ فعلى الرغم من تعقيدات الحجز، مضى بطائرة الى جدة من الطائف ليواصل الرحلة الى جازان، بعد أن أنهى محاضراته بالكلية، غامر قبل أن يتأكد مقعده، الذي بلغه تأكيده في الطريق، فيكون الصعابي بكرمه وأريحيته باستقباله. نذهب الى النادي على الرغم من الدلائل التي تشير الى انشغال لجمهور النادي بسبب من كون الميعاد مساء أربعاء، وكون النخبة الثقافية مرتبطة باجتماع تشاوري حول مشروع ثقافي إعلامي على مستوى المنطقة، وكذلك بأمسية شعرية بسامطة.. مضينا الى النادي، فوجدنا حسن الاستقبال وحسن التنظيم، وإتقان الاعداد فقد جهزت السيرة الذاتية المتواضعة للمحاضر عن طريق العرض بطريقة (البوربوينت)، متضمنة أغلفة المؤلفات، وقد أعدها مشكوراً: الأستاذ عبدالرحمن بهكلي بدأت المحاضرة التي شهدها حضور مناسب على الرغم من الشواغل المذكورة، بإدارة مميزة من قبل الصديق الدكتور: خالد ربيع الشافعي، ثم بدأت أسئلتي حول القصيدة الجديدة، وتركت بعض التساؤلات مفتوحة للجمهور.. لم يخذلني جمهور (جازان)، فما إن انتهت المحاضرة، حتى بدأوا يتقاطرون على طلب المداخلة، فكانت مداخلات لعدد من الحضور منهم: الدكتور أيمن بكر، والدكتور أسامة البحيري، والدكتور عبدالناصر هلال، والدكتور عاطف، والدكتور محمد حبيبي، والدكتور أحمد الخطيب، ونائب رئيس النادي، والأستاذ: عمر طاهر زيلع، والأستاذ جبريل عيسى، والأستاذ: اسماعيل مهجري.. وما استرعى انتباهي وجود حراك نقدي شاب في جازان يمثل تلقيا جديداً من مثل: جبريل عيسى، واسماعيل مهجري. وعلى العشاء كانت هناك محاورات أخر مع رئيس النادي، والدكتور الخواجة، والدكتور حمود أبوطالب، والمبدعين أمثال: ابراهيم زولي، عبدالرحمن موكلي، محمد يعقوب، أيمن عبدالحق. وعند الساعة العاشرة من صباح الخميس صحبني الدكتور عاطف بهجات الى مكان إقامته بصبيا، وكنت أقول مداعبا: أنني استقيت فهما جديداً لبكاء الشاعر الجاهلي على الأطلال من خلال حرص عاطف على الوقوف على بوابة العمارة التي كان يقطنها. وفي صبيات التقينا بصديق عاطف الدكتور: عبدالرحمن بشير الباحث الأكاديمي، الذي يفر الى أبحاثه من لاواء الغربة، فيضل يحرف في تأريخ الجزيرة، ويتابع الوجود اليهودي في البلدان العربية. وفي مساء الخميس ذهبنا الى سامطة يرافقني عاطف مع الصديق المرافق ابراهيم صعابي، استجابة لدعوة كريمة من الشيخ ابراهيم الشعبي، الذي كان منتداه يستضيف ذلك المساء، الإعلامي المعروف الدكتور عبدالعزيز قاسم، صاحب المكاشفات الذي تحدث ذلك المساء عن تجربة الملاحق الدينية، والإعلام الإسلامي، وقدم طروحات إشكالية خلقت أجواء من الحوار الساخن، بين الضيف والمداخلين، تناولت التسمية ب (إسلامي)، وتجربة القنوات الفضائية الدينية، وإشكالية استثمار الفن، والتعامل الإعلامي مع المرأة، وتجربة الاقتصاد الإسلامي.. وقد كان الحوار على عادة أهل جازان حضاريا منفتحا وإن شابته الحدة أحيانا.. وكان الشيخ الشعبي بحنكته وصفاء ذهنه ونفسه يحتضن الجميع، ويضفي عليهم من بشاشاته ما يهذب بحميا اختلاف الآراء. ثم قفلنا الى جازان لنغادرها صباح الجمعة، لنودعها في وداعنا لرفيق رحلتنا الأستاذ ابراهيم صعابي، الذي شغلناه أيضا بتعديل توقيت مغادرة عاطف لنعود سويا. شكراً يا أبا أحمد.. شكراً ياجازان ياكنزاً زاخراً بالفن والإبداع، ونبل الإنسان.