لقد حصل تحول ثقافي نوعي مهول حيث كان البشرقديماً يخافون من المجهول فصاروا يخافون من المعلوم وذلك لأن الأشياء تكشفت وعلمت ولم يؤد هذا التكشف إلى طمأنينة وقبول ولكنه ظل مادة للخوف. والخوف طعام بشري راسخ، وكان جهل الإنسان بحقائق الوقائع الكونية مصدر ذلك الخوف واخترع الإنسان الأول الأساطير لتفسر له تلك المظاهر من براكين وزلازل وهياج للبحار وأعاصير وصنع لكل حادثة معنى وهمياً ينسبها للشياطين والمردة والجن أو آلهة مصطنعة يرد لهم الأفعال ويقدم لهم النذر والقرابين لتجنب غضبهم المتمثل له بتلك الكوارث وهو إذ يخاف من ذلك كله ويرتعب وفي الوقت ذاته لا يعرف سر هذه الحوادث فإن خلق الأساطير ثم تصديق هذه الأساطير يمنحه شيئاً من المعنى المفترض لذاك الذي يحدث. ثم ان الإنسان البدائي لجأ إضافة إلى ذلك إلى تكوين وحدات تضامنية تساعده على مواجهة الخوف والتحالف ضده فنشأت العائلة الصغرى أولاً ثم توسعت إلى العائلة الممتدة وتوسعت أكثر إلى القبيلة وهذه استجابة أولية وضرورية لتوحيد المواجهة وتخفيف المخاوف في المشاركة فيها بدلاً من المواجهة الفردية. وحصل تطور نوعي في حياة البشر بعد تعرفهم على الدين وعلى فكرة التوحيد وتلقيهم للوحي الذي يعطي شرحاً للظواهر ويقدم حلولاً لها بالايمان بصانع الكون والايمان بالقضاء والقدر مع الود بجزاء وافر لكل صابر أو شاكر وبيوم يأتي بعد الموت تكون فيه السعادة مقابل شقاء الدنيا. ثم جاء العلم كمخترع بشري تقدمي جداً وفيه اجابات وشروحات للظواهر حتى أصبحت الأمور في إطار المعلوم في معظمها وتحولت الثقافة من الاسطوري والسحري إلى الديني من جهة والعلمي من جهة أخرى. ومع هذه التحولات وما صاحبها من تغيرات اقتصادية وسياسية فإن خوف الإنسان على واقعه لم يختف وجاءت مخاوف ذات مصدر سياسي ومصدر اقتصادي ولذا لجأ الإنسان إلى نظام الوطن والجيوش والإدارة وبناء المدن والمصانع وفي المقابل توجه الأفراد إلى تكوينات جديدة يواجهون بها ظروفهم من تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات وصناعة الفلسفة ،كلها لتحصين الذات من جهة وتثقيفها من جهة ثانية. لقد مرت البشرية بهذه الأطوار كلها والشيء الذي ظل يصحبها دوماً هو عنصر الخوف الذي صار غريزياً وثابتاً وتتبدل معانيه وأسبابه ولكنه يظل موجوداً ومحتكماً. ولعل من أبرز الصيغ الاجتماعية البشرية التي كانت تعطي وعوداً بالتحرر والانعتاق هي ظهور الطبقة الوسطى حيث برز الفرد البرجوازي الذي يعتمد على مهنته كمصدر معاشي ومصدر معنوي يمنحه قيمة ويمنحه أماناً ،وتمتعت الطبقة الوسطى بمزايا من حيث أنها تقوم على درجات من الثقافة ودرجات من العلم ودرجات من المهنية واستقل الفرد فيها عن الاعتماد على العائلة والسلالة والرابطة الأسرية وصار ذاتاً معتمدة على مؤهلاتها الخاصة ونتج عن الطبقة الوسطى فلسفة تقوم على مقولة (الحداثة) في مجالات الفكر والاقتصاد والإدارة والسياسة وظهرت الوعود الكبرى في الحرية والعدالة والمساواة وعاشت البشرية مرحلة عالية القيمة في وعودها الرومانسية في تحرر الذات وبشاراتها العليا ومر معظم القرن العشرين يحمل هذه الصورة الواعدة غير ان القرن ما لبث ان شارف على الانتهاء وانتهت معه الوعود تلك ليحل النظام العالمي الجديد كما بشر به جورج بوش الأب وتتمخض عنه العولمة التي شهدنا معها تراجع الطبقة الوسطى واضمحلال الوعود. وعاد الخوف ولكن بشكل عميق ومع تغير نوعي في معناه وأسبابه وهو ما ذكرناه من انعطاف عن حالة الخوف من المجهول إلى حالة الخوف من المعلوم وذلك لما صاحب العولمة من انفجار إعلامي هائل جعل كل الكون في عين واحدة تبصر كل شيء في وقت واحد وعبر صورة شاملة لها من الدقة والمباشرة ما يجعلها بمثابة الحدث المباشر في داخل غرفة النوم ومجالس السمر.مع ذلك الانفجار الإعلامي عرف الإنسان ما لم يكن يعرفه عن نفسه وعن كوكبه، عرف الأمراض والحروب وحاصرته تنبؤات العلماء عن كوارث المستقبل وما يهدد الكون من جهة والدول من جهة أخرى والأفراد كذلك من احتمالات لا سبيل إلى مواجهتها وزاد على ذلك ما يلمسه الإنسان من متغيرات ثقافية أجنبية عليه صارت تدخل إلى عقر داره وتغير أولاده وبناته وتتحكم في ملبسه عبر صناعة الموضة وفي مأكله عبر الإعلانات وأنواع المطاعم التي تفتح أبوابها بكل جديد في المأكل والمذاق حتى رأى الإنسان نفسه في مفارقة مع كل ما كان يعهده ويطمئن إليه. هذه منظومة ثقافية أورثت نوعاً خاصاً من الخوف هو خوف كوني شامل وكما لجأ الإنسان بخبرته الأولى إلى الأساطير وثقافة الوهم لمواجهة الخوف فإنه يعود الآن إلى السلوك نفسه، فصار يلجأ إلى أوهامه الأولى متمثلة بأصولياته المرجعية والرمزية وهذا ما نشهده في كل مكان من العالم في العودة إلى الصيغ القديمة والتشبث بها وذلك كله سببه ان الإنسان لم يتعلم بعد بشكل كاف بأن يتقبل المتغيرات بدلاً من ان يتخوف منها. الخوف غريزة بشرية أزلية ما تخف إلاّ وتعود تظهر بأشد مما كانت ولذا فإننا نعيش في ثقافة الخوف وبسببها نلجأ للاعقلاني واللامنطقي كحال أي خائف لا يجد وقتاً للتأمل والتوقف ويظل يهرب من هنا ومن هناك ويتشبث بالسعفة والخرقة أي بالوهم. وكلما ازداد المرء انفتاحاً ازداد انغلاقاً وهذا ما تكشف عنه الوقائع المعاصرة حيث نرى ظهور الصورة الكونية عبر التلفزيون وانفتاح الخطاب عبر الإنترنت ونرى بجوار هذا كله حالات من النكوص إلى الهويات الأولى ونرى البشر ينزعون نحو خصوصيات بعضها كان مسكوتاً عنه أو منسياً أو محايداً ثم تحول المحايد والمنسي إلى معنى مركزي وقيمة معلنة وجاهر كل امرئ بمكوناته حتى لم يعد أحد يستحي من انحيازاته بل صار يدعو لها ويبرهن عليها وهذا كله نوع من الاستجابات الاسطورية المنبعثة من الخبرة الأولى كجواب على تحديات تواجه الإنسان. إن الكلمة الأكثر تواتراً في التداول اللغوي المعاصر هي كلمة (التخوف) فالآباء يتخوفون على أولادهم، والناس تخاف من المستقبل والكل يخافون من الآخر. وفي كل كشف عن الآخر وعن المجهول وعن المنسي والمغفول عنه يأتي منزع نحو التخوف وعدم الألفة، وهذه هي مهمة ونتائج ثقافة الصورة وكلما زادت هذه زادت معها المخاوف ومن ثم زاد اللجوء إلى الحلول الاسطورية بغرض حماية الذات. حتى بلغ الأمر بفرنسا انتصدر قانونها الاسطوري المسمى (صون العلمانية) وهو قانون لحماية الذات من الآخر وثقافة الأجنبي وصورته. ودينه مثله مثل عودة المسيحية المحافظة في أمريكا وعودة شجرات النسب عندنا وكل ذلك صيغ تعبر عن مخاوف عميقة وعن رغبة في الاحتماء وكلما زاد الكلام الإعلامي عن الاحتباس الحراري وخطره على البشر زاد مقابل ذلك احتباس نفسي ذاتي يدفع إلى الركون للظل الواقي وان كان وهمياً. وستجد لذلك علامات كثيرة أخرى منها لجوء الناس مثلاً إلى نوع جديد من الهجرة وهي هجرة مختلفة عن كل ما هو معهود من هجرات تقليدية ويتمثل ذلك في مسعى الكثيرين في تملك بيوت خارج أوطانهم وإيداع رصيد مالي في مصرف أجنبي وهي حالة تحسب نتجت عن نقص في ثقة الذات بمحيطها وعن تخوف من مغبات المستقبل. والمرء هنا يضع قدمه على موطنين ليخلق لنفسه خيارات مستقبلية لعدم ثقته بالواقع ومآلاته. وكم نرى الخليجيين يشترون بيوتاً في لبنان، بينما اللبنانيون يبيعون بيوتهم للهجرة إلى كندا وأستراليا في تبادل للهجرات مع تماثل الأسباب. هذا خوف منظم ذو طابع علمي وإعلامي وهو الخوف من المعلوم ،على عكس الخوف التقليدي الذي مصدره المجهول وكان ذاك وهمياً وجاهلاً ولقد نرى ان الخوف من المعلوم أخطر وأعمق لأنه كلي وشامل من جهة ولأن خبرة الإنسان فيه مازالت جديدة وان كان مفهوم الطبقة الوسطى يمثل جواباً إنسانياً وحضارياً وثقافياً راقياً في مواجهة الظروف إلاّ ،ان تقهقر الطبقة الوسطى وتقهقر أنظمة هذه الطبقة في النقابات والأحزاب والجمعيات والفلسفات العمالية والبيئية هي التي جعلت الإنسان يشعر بالضياع ويلجأ من ثم إلى حلول اسطورية يستدعيها من مخزونه القديم وكما صنع أصناماً تحل له مشكلة الخوف من الظواهر الطبيعية التي يجهل سرها فإنه اليوم يعود ليخلق أصنامه من جديد عبر العودة مرة أخرى لنظمه التقليدية والركون إليها.