أم درمان صامتة، هذا افضل تعبير يمكن ان يطلق على المدينة السودانية العريقة وذات الاكثرية السكانية في البلاد في رابع يوم لهجوم شنه متمردو اقليم دارفور المضطرب يوم السبت الماضي، فاجواء الخوف والحذر ماتزال تسيطر على شوارعها حواريها الشعبية والراقية، واختفى ذلك الصخب الذي كان يميزها من دون غيرها من مدن البلاد . الجميع داخل المنازل وكانهم سلموا حياتهم لشاشات التلفزيون يرخون اذانهم إلى قنوات الاذاعات المختلفة عسى من خبر جديد يعيد الحياة إلى طبيعتها، ومع تقدم الوقت خلال جولة طويلة ل "الرياض" امس في المدينة ايقنت أن سكانها يقاومون الظروف كما تتبخر ذاكرة الانفجارات وحرب الشوراع التي لم يعايشونها منذ 39عاما عندما واجه الرئيس الاسبق جعفر نميري انصار الامام المهدي في احداث الملازمين وودنوباوي الدامية . فعبدالله ابن العامين من عمره تحمله جدته الحاجة امنه إلى اقرب صاحب سوبر ماركت في الحي كي تتسوق دون تذهب بعيدا إلى اسواق المدينة الكبيرة التي اغلق تجارها اغلب المحال التجارية الكبيرة والتزموا منازلهم تماما كما فعلت الجدة وحفيدها في منزلها المطل على شارع الشنقيطي في اقصي شمالي المدينة حيث دارت يوم السبت اعنف المعارك بين القوات الحكومية والمتمردين وكان نفس الشارع حتى وقت مبكر كما قالت ل (الرياض) مملوء عن اخره بجثث الموتى من المتمردين قبل ان يتم جمعها فيما بعد فقد خلتأم درمان من المارة عدا قلة قليلة اختارت ارصفة الشوراع انتظارا للمركبات العامة تلمح في عيونهم الرهق من تلك الليلة الساهرة ذات الاحلام المزعجة في ذلك السبت الاسود كما صاروا يسمونه، وحتى اصحاب المركبات العامة ينذرون ركابهم قبل الركوب بان محطتهم الاخيرة ربما تكون منطقة الشهداء في وسط المدينة ومن هناك يمكنهم ان يحددوا ما ان كانوا سيواصلون رحلتهم عبر الجسور الواقعة على النيل والمؤدية إلى مدينتي بحري والخرطوم اذا سمح لهم رجال الحواجز الامنية المنتشرين في الشوارع بذلك. كل سكانأم درمان يتحدثون عن موضوع واحد ولاشيء غيره هو تسلل المتمردين وكانهم مقبلين على امتحان اكاديمي عسير ويريدون ان يراجعون دروسهم قبل الوصول إلى القاعة التي توزع فيها اوراقه، فالحديث هنا حول موضوع واحد تتعدد رواياته فليس هناك من يملك رواية بوليسية مثيرة عن قصص المطاردات والقاء القبض على المتمردين، والاماكن المزدحمة في المدينة هي تلك الاكشاك الصغيرة التي خصصتها بلدية المدينة منذ زمن بعيد لتباع فيها الصحف السودانية اليومية التي تعج بمطبوعاتها الخرطوم، فالشخص فيأم درمان هذه الايام سواء كان رجلا او امراة لا يكتفي بشراء صحيفة واحدة وانما عدة صحف عله يجد روايات لم يسمع عنها في جلسات المنازل المخصصة هي الاخري برمتها للاحداث. وعلى مقربة من الجسر الذي يعبر به المارة والمركبات النيل الابيض في طريق العاصمة الخرطوم، تزدحم الحركة قليلا، وايضا ترتفع اعداد الحواجز الامنية كلما اقتربت من الجسر والجميع يتحسسون جيوبهم ليلامسون هوياتهم لانك ان لم تفعل ذلك وتقدم اثبات شخصك لرجال الامن فانهم لن يسمحوا لك بالمرور. فهنا يتشدد رجال الامن في تفتيش المارة والمركبات وفي هذا المكان ايضا تلقي المتمردون يوم السبت الماضي ضربة موجعة من القوات الحكومية وهم يحاولون التسلل إلى الطرف الآخر من الخرطوم حيث المواقع الحكومية ومكان كبار رجال الحكومة المتنفذين لكنهم بالطبع أخفقوا في العبور قبل ان يتركواأم درمان فارين بجلدهم من نيران الجيش والشرطة والامن. المشهد الاول في الجسر وجود كثيف لرجال الامن ومدرعات عاتية عليها جنود مدججون بالاسلحة الثقيلة والخفيفة وفي حالة استعداد كاملة تحسبا لا ي طارئ، المواطنون يسيرون راجلين للوصول إلى الناحية الاخرى بتوتر باين والصمت هو سيد الموقف وهذا لن يحدث الا بعد تفتيش دقيق، مخارج الجسر من ناحية أم درمان لاتزال شاهدة على المواجهات الدامية فاثار الرصاص واقفة على الاسفلت وعلى المبانى القريبة من المكان، الجنود مايزالون يضربون حصارهم على الفتيحاب القريب من المكان حيث تسلل إلى هناك متمردون فارون باقدامهم بعد ان تركوا سيارتهم عند المدخل واثار الدمار على المحال التجارية هنا في الفتيحاب او (ابسعد) أبو سعد كما يحلو لانصار المهدي الذي عسكر هنا قبل مائة وثلاثة وعشرين عاما وهو في طريقه لغزو الخرطوم وقتل الحاكم الانجليزي غردون تحكى وحدها عن نوعية المعركة التي دارت هنا خليط من الجنود من مختلف القوات الامنية يقومون بتمرير السيارات بعجل ليرفعوا من درجات التوتر ويطلبوا من الراجلين التحرك بسرعة. احد سكان المنطقة المتاخمة للمكان قال ل "الرياض" انه منذ الجمعة الماضي لم يخرج من هنا وعايش لحظات الاشتباكات بقلق شديد ازداد ليصل إلى مرحلة الهستيريا عندما عبرت من فوق منزله احدى القذاف الثقيلة التي وجهتها القوات الحكومية لفك تجمع المتمردين. توقفنا عند نقطة تفتيش رئيسة امام احد اقسام الشرطة واجبرنا على ابراز البطاقات وبعدها تحركنا في الاتجاه الغربي للمدينة لاحظنا وجود تجمعات كبيرة لنساء على جنبات الطريق العام، ارتفعت وتيرة التجمهر وتنوعت بين الرجال والنساء والصبية والاطفال.. اكتشفنا ان قوات الامن تداهم مجموعة من المنازل بحي العباسية العريق واسفرت العملية التي لم تستغرق سوى بضع دقائق عن القبض على مجموعة من المشتبهين باحد المنازل، لم يختلف الامر بالشوارع الاخرى فالقوات تقوم بدهم عشرات المنازل هنا، والنسوة يرشدنهم إلى منازل اخرى يعتقدون وجود مجموعة من المتسللين بداخلها. هذا هو المشهد باحياء أم درمان القديمة فالشوارع الرئيسة خالية من المارة، والمحلات التجارية ابوابها مغلقة تماما، محطات الوقود لا تعمل اذن الوضع حتى الآن في المدينة يتباين من شارع إلى اخر ومن حي إلى حي كذلك، والاطفال الصغار هم وحدهم من يجوب الشوارع الداخلية في اعرق حي امدرماني هو حي الموردة الواقع على النيل، هنا ايضا يتحدثون عن المعارك، وكيف شاهدوا عمليات القبض على المجموعات، وشارع الحي الرئيسي الذي كان يعج سابقا بالحياة اصبح مختلفاً تماما، فالحركة متقطعة تماما الا من سيارات الامن المحلات التجارية مغلقة وحتى سوق السمك الشهير الذي يجذب كل سكان العاصمة كتب عليه ايضا الاجازة الجبرية فحركة السكان هنا خفيفة الا للعابرين فقط، وكان الموردة التي تضخ الحياة تحولت إلى مدينة تسكنها الاشباح.