أورد الزميل الدكتور مطلق المطيري، من خلال زاويته في جريدة الرياض، قصة حدثت في مصر،عندما دخل جمع من الناس أحد المساجد حاملين معهم نعشا بداخله ميت للصلاة عليه. وما أن انتهت الصلاة على ذلك الميت وأراد "أهله" حمله لدفنه حتى "فوجئوا" ب "تشبث" النعش في الأرض بقوة فشلت معها كل جهودهم لزحزحته قيد أنملة!!. لذا فقد تنادى الحاضرون باللجوء إلى الصلاة والذكر والدعاء للميت، إلا أن كل تلك الجهود لم تفلح في تغيير موقف الأرض من النعش!!!.وبينما المصلون على تلك الحال، إذ نادى مناد من طرف قصي في المسجد أن هَوِّنوا على أنفسكم، فالميت مدين لي بدين ولن تطلق الأرض سراحه ما لم يُسدد ما عليه من دين. فتنادت الجموع مرة أخرى أن هبوا للتبرع لقضاء دين الرجل لعل كربته أن تنفرج، مما جعل كلا منهم يتبرع بما يملك لحظتها، وبالفعل استطاعوا جمع مبلغ يوازي ما حدده الدائن، وأعطوه إياه الذي أخذه وولى هاربا على وقع إعلان مسامحته الميت. وفي ظل غياب مفاجئ لأهل الميت، تبرع المصلون لحمل النعش تمهيدا لدفنه، لكن قبل حمل النعش أشار أحدهم بفتحه لمعرفة هوية الميت، وما أن فتحوه حتى فوجئوا بعدم وجود جثة، بل كومة من الحجارة!!!. أنا هنا لن أتناول هذه القصة من زاوية جِدَّتها في اختراع أساليب جديدة للاحتيال على الناس بامتصاص ما في جيوبهم، بل سأتناولها من زاوية البحث في الأسباب التي تجعل الفرد العربي، بالذات، يُصدق مثل تلك الخرافات إلى الدرجة التي تجعله مكتوف الأيدي أمام أكثر مظاهرها خرافية. لقد كنا نتعايش في السابق مع قصص مشابهة تجري على ألسنة الوعاظ والقصاص(بالذات في منطقة نجد). أذكر منهم واعظا مشهورا كان يتردد على أحد مساجد مدينتي يعظ الناس ويذكرهم من مغبة الانسياق وراء المحدثات، على اعتبار أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وكان من تلك المحدثات ما كان يُعرف ب "الكرتة" التي كانت تلبسها بعض النساء. والكرتة مصطلح نجدي يرمز إلى ثوب تتعمد بعض النساء تضييقه من ناحية الخصر. ولم يجد واعظنا وسيلة يحذر بها النساء من لبس الكرتة إلا اختراع قصة مفادها أن فتاة توفيت وقام أهلها بالصلاة عليها ودفنها، وبعد الدفن، اكتشف أحد إخوتها أن مفاتيحه سقطت منه في القبر أثناء مشاركته في الدفن، فلم يكن أمامه مفر من حفر قبر أخته لاستعادة المفاتيح. وما فتح القبر حتى تفاجأ بمجموعة من الثعابين تلتف حول خصر أخته. فهرع مذعورا إلى أمه يسألها عما كانت ترتكبه أخته من الموبقات، فأخبرته بأنها كانت تلبس (الكرتة) حال خلوها بنفسها!!!. ومن المحدثات الأخرى التي كانت تؤرق مضاجع الوعاظ، حينها، ما (ابتكرته) بعض النساء أيضا من لف شعورهن وجعله على هيئة جديلة (ظفيرة) واحدة. لذا فقد بذلوا جهودهم، حينها، لمحاربة الظاهرة باختراع قصص مشابهة، منها ما ذكره أحدهم من أن إحدى من كانت تجدل شعرها على هيئة ظفيرة واحدة توفيت وبعد دفنها اكتشف أحد أفراد أهلها الذي كان يشارك في حثو التراب سقوط حاجة له في قبرها. وبعد أن فتح الرجل القبر تفاجأ بوجود رجل ذي بشرة بيضاء وشعر أشقر. ارتعدت فرائص الرجل رعبا وذهب إلى أهله يتقصى الخبر فلم يجد جوابا. ظلت القصة مؤرقة لأهل الفتاة الذين لم يجدوا بدا من التكتم عليها. وبعد أيام جاءتهم الأخبار بأن عائلة في إحدى الدول الأوروبية اضطرت لحفر قبر أحد أولادها الذي توفي قريبا ففوجئوا بوجود امرأة ذات ملامح عربية مكان ابنهم. وبعد بحث وتقص شديدين تبين أن البنت "نُقلِت" من مقبرتها إلى مقبرة تلك الدولة الأوروبية بسبب تشبهها بنسائها اللائي كن يجدلن شعورهن على شكل ظفيرة واحدة، فيما نُقل الرجل الأوروبي إلى مقابر المسلمين لأنه كان مسلما يكتم إسلامه عن قومه!!. وفي نفس السياق، ووفقا لأحد الوعاظ، فإن إحدى مغسلات الموتى فوجئت بثوب إحدى من كانت تغسلن وهو يلتصق على ظهرها بشكل لم يسمح لها بنزعه إلا بقوة شديدة، وعندما نزعته لاحظت احتراق الجزء المباطن للثوب من جهة الظهر، وبعدما بحثت المُغسِّلة عن (موبقات) المتوفية وجدت أنها ممن يضعن (سَحَّاب) الثوب من الخلف "الجيب من وراء"، الذي كان وقتها من الموبقات التي لا يُتسامح معها. هذه الخرافات التي كانت تتصدر في الزمن الغابر موائد وعظنا، والتي كان متعهدو تلك المواعظ يتسابقون على نشرها بكل ما كانوا يملكونه من وسائل، والتي ربما تطورت في الحاضر إلى أسلوب جديد لامتصاص ما في جيوب الناس، مع بقاء الأصل القديم متداولا في نفس سياقه، لها جذر ثقافي يقف وراءها ويدعمها لتكون "معقولة" من قبل الفرد والمجتمع العربي. هذا الجذر هو الموقف من العلاقة بين الأسباب والمسبَّبات الطبيعية، وهو المعبر عنه ب "قانون السببية"، وهو موقف تختلف الثقافة العربية فيه عن الثقافة الأوروبية. ففي الأخيرة تُعتبر العلاقة بين الأسباب ومسبَّباتها ضرورية لا مجال فيها للاحتمال أو المصادفة، منذ أن اعتبر أرسطو أن "العقل ليس شيئا غير إدراك الأسباب". وتجذير هذا الموقف من العلاقة بين الأسباب والمسببات، يورث القناعة باستحالة إمساك الأرض بمثل ذلك النعش بدون سبب مادي محسوس. أما الفكر العربي فقد قاوم، منذ بداية عصرالتدوين، ما كان الفكر الفلسفي القديم يعبِّر عنه بفكرة "الطبع" التي كان يفسر بها آلية التأثير التي تحدثه الأسباب بالمسببات. وهي الفكرة التي يفسر بها العلم الحديث التأثير بالسببية والحتمية. وبدأت مقاومة الفكر العربي لفكرة السببية مبكرا مع نشوء علم الكلام العربي. فقد رفض المتكلمون، معتزلة وأشاعرة، فكرة (الطبع) الفلسفية التي تعني جريان قوانين الطبيعة على نحو مطرد بموجب قوانين صارمة لا تتبدل، واستعاضوا عنه بفكرة "التجويز" أو "مستقر العادة"، ويعنون بذلك أن ما يشاهده الإنسان من انتظام قوانين الطبيعة وصرامتها ليس إلا عادة اعتاد على ملاحظتها ليس إلا. لكن، والرأي لا زال للمتكلمين، يمكن خرق تلك العادة بسهولة، فقد يحترق القطن، كما قالوا، بدون أن تمسه النار، كما يمكن أن تشتعل النار بالقطن ولا يحترق. و قد قالوا بهذا المبدأ هروبا مما تصوروه نفيا لإرادة الله تعالى. في حين أن الاطراد والصرامة في قوانين الطبيعة لابد وأن يدلان على إرادة الله وحكمته معا. وهذا التصور، أعني نفي قانون الطبع أو السببية، هو الذي جعل الفرد العربي، يمكن أن يصدق أن تنقلب عمارة شاهقة في إحدى المدن المعاصرة إلى جبل ضخم في غمضة عين!!. كما يمكن أن تتحول صحراء كبرى كصحراء الربع الخالي أو الصحراء الكبرى إلى واحة غناء قبل أن يرتد إليه طرفه. ولنفي قانون السببية آثار مدمرة، ليس على مستوى التقدم العلمي والصناعي فحسب، بل حتى على المستوى الاجتماعي. فبفضل ذلك النفي، صدُّق السذج ما كانوا يسمعونه عن معجزات ال "جهاد" الأفغاني عندما كان ال "مجاهد" يسقط طائرة روسية بمجرد رميها بحفنة تراب. وبفضلها أيضا روَّج منقاش العراقي أضحوكته باسقاطه طائرة أمريكية من طراز F16 ببندقيته الصدئة. والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.