فجع الوسط الأدبي في علم من أعلام الفكر والأدب والثقافة قل نظيره في الساحة العربية ألا وهو الأديب الدكتور سهيل ادريس بعد ان عانى من داء الفشل الكلوي عناء ممضا. وما ان بلغتني وفاة هذا العملاق حتى هاجت الذكريات، فتذكرت اقبالي على مجلته في اواخر الستينيات الميلادية من القرن العشرين حيث كانت تحفل بإنتاج لفيف من الشعراء والنقاد من امثال رئيف خوري وإحسان عباس ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. وأقبلت على مطبوعات دار الآداب من دواوين شعرية وروايات عربية وأخرى مترجمة عن كبار كتاب العالم من أمثال البير كامو وجان بول سارتر ومرجريت دورا، وريجيس دوبريه وغيرهم. عمر مديد ثري بالانتاج حيث ولد اديبنا الكبير في عاصمة لبنان، بيروت، في أسرة محافظة وصفها وصفاً صريحاً دقيقاً في روايته (الخندق الغميق) وكانت ولادته سنة 1925اي انه عمر ما ينيف على ثمانين عاماً قضاها في خدمة الفكر العربي والثقافة العربية الهادفة، أدخله اهله الكلية الشرعية في بيروت ليصبح عالماً من علماء الشريعة ولكن الصحافة اجتذبته فغاص في بحرها حتى استفاق في منتصف الأربعينيات على رغبة جامحة منه للدراسة في فرنسا للحصول على شهادة الدكتوراه فالتحق بالسوربون العتيدة وقد بلغ في اجادة اللغة الفرنسية مبلغاً استطاع ان يحاكي ما وصل اليه الدكتور طه حسين والدكتور عبدالرحمن بدوي والدكتور محمد حسين هيكل باشا والأستاذ سامي الدروبي وغيرهم من اعلام المترجمين عن اللغة الفرنسية. عاد سهيل ادريس الى لبنان سنة 1952م وفي السنة التي تليها اسس مجلة الآداب سنة 1953م بالاشتراك مع منير البعلبكي ثم تفرد بملكية المجلة سنة 1956وقد فتح سهيل ادريس ابواب المجلة للشعر الحر وتوج سهيل ادريس صداقته الكبيرة مع الشاعر نزار قباني بتأسيس دار الآداب ولكن نزار تعرض لضغوط، اضطر معها الى الانفصال عن سهيل ادريس. في منتصف السبعينيات قرأت له رائعيته "الخندق الغميق" و"الحي اللاتيني" التي اصدرها عام 1953م والحي اللاتيني تدور احداثها في باريس في الحي اللاتيني الذي يسكن به طلاب كلية السوربون وهذه الرواية تتناول العلاقة بين الشرق والغرب كما كان يقال في القرن الماضي او بالتعبير العصري الشائع الآن العلاقة بين دول الشمال ودول الجنوب بعد ان اصبح الشرق الياباني والصيني والماليزي يصارع الغرب في تقدمه الصناعي والمالي والزراعي. وهذا العمل الأدبي القصصي يشبه الى حد بعيد اعمالاً ادبية تناولت هذه العلاقة ومن هذه الأعمال الأيام لطه حسين وحياتي لأحمد أمين وأوراق لعبدالله العروي وقنديل أم هاشم ليحيى حقي وشرق المتوسط لعبدالرحمن منيف. أما عن لغتها فيقول الناقد جميل حمداوي: "أما لغة السرد فهي لغة بيانية وانشائية تذكرنا بلغة الرافعي وطه حسين والمنفلوطي تمتاز بنصاعة التعبير وسلامة الألفاظ والتعابير الموحية والصور البلاغية الرائعة في الجودة والانتقاء كما انها لغة شاعرية في التشخيص ثرية في تراكيبها ومعاجمها. ومن حقولها الدلالية نجد حقل السفر، حقل الذات، حقل العلم، حقل الحب وحقل النضال". أما بالنسبة للبعد النفسي فيتميز بطل الرواية بالخوف والقلق والعبث وهو يحمل نفسية شرقية يطبعها الحياء والانطواء والانعزال. رأيت الدكتور سهيل ادريس مرة واحدة في اول معرض للكتاب وقد اقيم بالدرعية سنة 1978فرأيت رجلاً متوسط القامة أميل الى القصر كثير التبسم قد انتصب بجانب معروضات داره وهو رجل حازم في امور المال وأسعار الكتب وهو ينسى انه اديب فتبرز شخصية التاجر الناجح الذي يحسن اقتناص الفرص. ثم قرأت له ترجمته الرائعة لثلاثية جان بول سارتر "دروب الحرية" وهي جديرة ان يفرد لها مقال خاص. رحم الله الدكتور سهيل ادريس فقد كان قلماً حراً نزيهاً شريفاً وقصصياً لا يجارى ومترجماً بعيد الغور عميق المدى.