هل موت الأيديولوجيا هو بمثابة تفريغ للواقع من المعطى المؤسس عليه، أي هدمه وزلزلة الأساسات الفكرية التي بني عليها، وماذا لو تصاعدنا بهذا التحليل ليتحول موت الأيديولوجيا إلى فعل تخطيئي يطعن بيقينيات فوق شبهة النقد، عندها سننزلق حتماً إلى فرز سفسطائي يلغي المؤتلف ويعمّق المختلف. فكرة الأيديولوجيا كما حددها عبدالله العروي في كتابه المفصلي «الايديولوجيا العربية المعاصرة» مستخدمة في ثلاثة معان مختلفة: الأول بمثابة انعكاس منفصل عن الحقيقة الواقعة بسبب مجموعة الأدوات الذهنية المستعملة. والثاني بمعنى نظام فكري يحجب الواقع لأن هذا مستحيل التحليل (أي الواقع). والثالث بمعنى بناء نظري مأخوذ من مجتمع آخر غير متدرج في الواقع، أي يستخدم كنموذج. في تحديدات العروي الثلاثة تبرز رغبة في الالتفاف على الواقع، أي ما يشبه الخروج منه وفي اللحظة عينها الكتابة عنه، تلك معضلة طالما أرهقت الفكر العربي وحوّلت النظريات إلى أيقونات طوباوية لا ترجمة لمعادلها الواقعي، مما أنتج واقع اللاحل لمشكلات المجتمع والزهو بأفكار كبرى واستنفار الطاقات لتحقيقها. فلا تنظير من المجتمع بل غالباً ما كان على المجتمع، ومن الملاحظ أن هذا المنطق الفوقي استحوذ على حقبة مديدة من العقل العربي وأجهض كل المحاولات لتطويره. ربما يكون موت الأيديولوجيا هو مخاض لولادة سواها. لكن ليس بالجرعات الفكرية نفسها، بل بتغليب براغماتي مصلحي، تماماً كما يفعل بعض الدول الكبرى. وهذا أمر شبه حتمي نتيجة إفرازات العولمة التي قلبت الكثير من المفاهيم، وإلا ما تفسير أن تكون الصين قلعة الشيوعية العنيدة والخصم التاريخي للرأسمالية الغربية محركاً رئيسياً للاقتصاد العالمي وشريكة بكل سياساته وهيكلياته. ذلك ليس محاولة للتأقلم. إنه تطوير لمنجز عقائدي له ثوابته، لكنه يتفاعل بمتغيراته مع حركة التاريخ ومساراتها. تمرين فكري يسبغ على الأيديولوجيا صفة المرونة، ويدرّبها على التنفس بانتظام وسط رياح التحولات العالمية. العقل العربي ربما يكون قد حفر في الأيديولوجيات، لكن معاول التنفيذ بقيت صدئة. لم تترجم الفكر الى واقع، فتشكلت مجتمعات تسبق أيديولوجياتها بأميال، وغدونا نحتضر عند كل تحول نمر به، ما دفعنا الى اختراع مصطلح الغزو الثقافي لنعلّق على مشجبه كل نواقصنا من دون مراجعة أو مساءلة للذات. لا بد للأيديولوجيا من أن تتسع للمجتمع، لا أن تضيّق المجتمع على مقاسها. هذا شرط أساسي لإعادة إحيائها، ومن دون ذلك سنظل نمعن في قتلها وربما التمثيل بجثتها في وقت نحن في أشد حالات الإيمان بصنميتها. بريد إلكتروني