بدأ القرن العشرون بواحدة من أعظم الثورات في تاريخ الإنسانية هي الثورة البولشفية لعام 1917التي غيّرت روسيا ونقلتها من حال إلى حال.. وبعد ذلك توالت الثورات في أوروبا وفي سواها، سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها. في غرب أوروبا كان استيلاء النازيين على الحكم في ألمانيا، وكذلك استيلاء الفاشيين على الحكم في إيطاليا بمثابة الثورة التي لم تعم نتائجها هذين البلدين وحسب، وإنما كان لها أثرها في كل بلد في العالم.. وتوالت الثورات بعد ذلك.. ففي أوروبا الغربية نشبت ثورة في اسبانيا بين الجمهوريين والمحافظين انتهت باستيلاء فرانكو على السلطة فيها.. وبمعونة من السوفيات، قامت ثورات أو انقلابات في أقطار أوروبا الشرقية كلها وصل خلالها الشيوعيون إلى السلطة وظلوا فيها إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فانهاروا معه نظراً لتبعيتهم المطلقة له. وقامت ثورات أخرى كثيرة في القرن العشرين في انحاء أخرى في العالم منها الثورة الصينية في بداية الخمسينات وقد انتهت بانتصارها على الجنرال شان كاي شيك الذي لجأ إلى جزيرة تايوان.. وكان من هذه الثورات أيضاً الثورة الفيتنامية، وحركة الخمير الحمر في كمبوديا، ونشوء كوريا الشمالية التي ترأسها كيم ايل سونغ الزعيم المحبوب من أكثر من ثلاثين مليون كوري. وشهد العالم العربي بالذات، سواء في مشرقه أو في مغربه، ثورات كثيرة وانقلابات أكثر وصل خلالها ثوار وانقلابيون إلى السلطة.. وقامت انقلابات أخرى على الانقلابات السابقة.. وهناك أكثر من بلد عربي ممن شهد هذه الثورات والانقلابات مازال لديه "مجلس قيادة ثورة"، و"قوانين طوارئ" إلى اليوم، رغم مرور ما لا يقل عن أربعين سنة أحياناً من قيام هذه الثورات أو الانقلابات التي وعدت شعوبها بكل الأحلام والطموحات دون أن تحقق في الواقع شيئاً منها.. بل ان هذه البلدان التي ابتليت بالثوار والانقلابيين تراجعت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية تراجعاً مخيفاً عما كان سائداً زمن "الرجعيين".. أما السياسة فلم يعد لها وجود البتة نظراً لانقراض السياسيين بسبب عدم الحاجة إليهم.. فالزعيم الملهم، أو الزعيم الأوحد، استأصلهم جميعاً وحلّ محلّهم.. أما كل الوعود التي أطلقها جماعة "الثورة" بخصوص تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، والتي على أساسها قاموا بثوراتهم وانقلاباتهم، فقد ذهبت مع الريح تماماً كما ذهبت كل عواطفهم القومية الجياشة، بدليل الوضع الحالي في فلسطين، من البحر إلى النهر، وبدليل انهيار أعز حلم راود العرب في تاريخهم الحديث، وهو حلم الوحدة العربية. وإذا كان القرن العشرون قد شهد في بداياته وفي منتصفه ثورات بلا حصر، فقد شهد في نهاياته، كما يشهد الآن، ما يشبه فعل الندامة على هذه الثورات، وأسئلة تتناول الأسباب الحقيقية التي جعلت "البرابرة" يستولون على السلطة، وعدم قدرة خصومهم على التصدي لهم وأبعاد الكأس المرة بالتالي عن شعوبهم.. فالواقع أن الثورات عجزت في الأعم الأغلب، إن لم يكن على الدوام، عن تحقيق الوعود التي وعدت بها، ولم تنجح إلا في وأد الحريات على أنواعها وكذلك في فرض أنظمة استبدادية تفتقر إلى الحد الأدنى من احترام إنسانية الإنسان.. وفي ظل هذه الثورات شاع الخوف والرعب، وانتشر الفقر، وصار هدف الناس تأمين الرغيف، والعودة بالسلامة إلى البيوت في ساعات المساء، والنهوض باكراً إلى المعمل، أو مركز العمل.. وغاب العقل، ومعه العدل.. أما اليقين فقد امتلكه الثوار وحدهم.. ولم يعد من مجال للحوار، إذ مع من يتحاور الإنسان.. وكان من أعظم أمنيات الناس أن يتمكنوا من الهجرة عبر الحدود، ولو بمشقة بالغة قد تعرضهم للموت.. فلا أقل من مئة ألف كوبي غرقوا في المحيط الأطلسي وهم يحاولون الهرب من "جنة" الزعيم الملهم كاستروا إلى أميركا. أما الذين هاجروا من أوروبا الشرقية الشيوعية إلى أوروبا الغربية وأميركا، فعددهم بالملايين، ويمكننا أن نفترض وجود آلاف مؤلفة قتلوا وهم يحاولون الهرب إلى الخارج. في كل مكان على سطح الأرض ابتلي بالثورة والثوار، وأمكنه أن يتحرر مع الوقت منهم، تشهد المكتبات العامة طفرة هائلة من الكتب التي تتحدث عما فعله الثوار بالبلدان التي نجحوا في الاستيلاء على تقاليد السلطة فيها. قرأت قبل أيام كتاباً بالفرنسية يؤرخ لحكم الشيوعيين في كل مكان على الأرض، ورد فيه أن ضحايا الشيوعية ومجازرها بلغت منذ عام 1917حتى نهاية "الخمير الحمر" في التسعينيات، 58مليون نسمة، أما الخمير الحمر، وهم قبيلة شيوعية متطرفة، فقد بلغ ضحاياهم حوالي مليوني نسمة. وتشهد روسياوألمانيا بالذات في الوقت الراهن مناقشات عامة حول ماضيهما "الثوري" القريب بهدف استخلاص الدروس والعبر .. ومن هذه الدروس والعبر التي يتحدث عنها الروس والألمان، أنه لولا لينين وستالين وهتلر، لكانت روسياوألمانيا اليوم في وضع حضاري أفضل. فصحيح أن ألمانيا الآن قد لحقت بركب الحضارة العالمية، وباتت في صميم هذه الحضارة، إلا أن الألمان يقولون إن النازية أعاقت مسيرة ألمانيا إعاقة كبيرة. فلولا النازية لكانت ألمانيا الآن زعيمة التقدم والحداثة في العالم، لا أميركا. أما الروس فيبكون دماً على روسيا القيصرية ويقولون إن روسيا لو تابعت مسيرتها الديمقراطية بدون شيوعية وشيوعيين لكانت الآن مثل أوروبا الغربية الحالية أو أفضل. ويمكن للمرء، لو كان شاعرا، أن ينظم ما لا يُحصى من القصائد في هجاء كل الثورات العربية وكل الثوار العرب، من 23يوليو إلى أي رقم آخر من أرقام الانقلابات العربية. ليمر أحدنا اليوم في أية مدينة عربية (لتكن الاسكندرية على سبيل المثال) وليقارنء بين حاضرها البائس وماضيها العظيم. كانت الاسكندرية عشية 23يوليو، لؤلؤة البحر المتوسط بالفعل. لم تكن روما أو أثينا وحتى باريس، أفضل منها. وكانت بغداد قبل 14تموز و 17تموز الآخر، مدينة عربية ناهضة تماما كما كانت بيروت قبل وصول البرابرة إليها، وكان كل شيء قابلاً للحياة والنماء، والتطور قبل أن يسود شعار: "لا صوت يعلو على صوت المعركة". مشهورة هي الكلمة التي تقول إن الثورات تأكل أبناءها. (فهذا ما لم يعد أحد يسأل عنه). ولكن هناك كلمة أخرى غير مشهورة تقول إن الثورات تأكل بلدانها قبل كل شيء. فقدت روسيا العظيمة روحها زمن ستالين ولينين وخلفائهما، ولم يزدهر فيها سوى البوليس السري والرغيف والفرن وعبادة الشخص. وما يقال عن روسيا يمكن أن يقال عن كل بلد عربي، أو غير عربي، رزئ بأولئك الذين كانوا عبئاً على التاريخ، فأعاقوا مسيرته، وعلى الأحلام البيضاء لشعوبهم وبلدانهم، فواروها التراب.