90 طالباً يستعرضون بحوثهم الدفاعية في ملتقى جسر    الرئيس السوري يطّلع على تطور السعودية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي    عبدالله آل عصمان مُديراً لتعليم سراة عبيدة    أمير المدينة يرعى حفل تدشين قاعة المؤتمرات الكبرى بغرفة المنطقة    "سلمان للإغاثة" يوزع 500 سلة غذائية في عدة مناطق بجمهورية بنغلاديش    توقيع مذكرة تفاهم «الجسر السعودي-الألماني للهيدروجين الأخضر» بين «أكواباور» و«سيفي»    جولة للامتياز التجاري ب" تبوك الورد"    التحليق في عالم متجدد    الذكاء الإصطناعي وإدارة العمليات الطريق إلى كفاءة مؤسسية ناجحة    ترمب يفرض رسوماً جمركية على كندا والمكسيك والصين    مؤتمر سعودي يثري الحوار العالمي    مواقف تاريخية للسعودية لإعادة سورية لمحيطها العربي    رصاص الاحتلال يقتل المسنين وعشرات يقتحمون الأقصى    أوكرانيا وروسيا تتبادلان الاتهامات بشأن قصف مدنيين    سورية المستقرة    المبعوث الأميركي: نؤيد انتخابات أوكرانية بعد "وقف النار"    «أونروا» تحذر من عواقب «قانوني الاحتلال» وتؤكد استمرار خدماتها    النصر يتحدّى الوصل والأهلي في مهمة عبور «السد»    ولي العهد والرئيس الشرع يبحثان مستجدات الأحداث وسبل دعم أمن واستقرار سورية    في الجولة ال 20 من دوري" يلو".. الصفا يستقبل العدالة.. والبكيرية يواجه الجبلين    الأهلي يعير «ماكسيمان» لنابولي الإيطالي    الساحر «لوكا» إلى نادي الأساطير.. الصفقة العظمى المحيّرة!    وعد من أوناي هرنانديز لجماهير الإتحاد    العلاقات بين الذل والكرامة    القيادة تعزي أمير الكويت والرئيس الألماني    أمانة جدة تشرع في إشعار أصحاب المباني الآيلة للسقوط بحيي الفيصلية والربوة    6 مذكرات تعاون لتطوير الخدمات الصحية بالمدينة المنورة    محافظ جدة يطلع على خطط المرور والدفاع المدني    الانحراف المفاجئ يتصدّر مسببات حوادث المرور في الرياض    كلنا نعيش بستر الله    التعاقدات.. تعرف إيه عن المنطق؟    من أسرار الجريش    تحت رعاية خادم الحرمين.. جائزة الأميرة صيتة تكرم الفائزين بدورتها الثانية عشرة    انطلاق ملتقى قراءة النص في أدبي جدة    إن اردت السلام فتجنب هؤلاء    «عاصفة الفئران» تجتاح 11 مدينة حول العالم    ..وتجمع جازان الصحي يتميز في مبادرة المواساة    طريقة عمل ارز بالكاري الاصفر والخضروات وقطع الدجاج    شرطة الرياض تقبض على مقيم لمخالفته نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    الرياضة المجتمعية.. جزءٌ لا يتجزأ من رؤية السعودية 2030    على هوامش القول.. ومهرجان الدرعية للرواية    هيئة الترفيه.. فن صناعة الجمال    محمد عبده.. تغريدة الفن....!    كاد «ترمب» أن يكون..!    مكالمة إيقاظ صينية عنيفة !    سمو محافظ حفر الباطن يدشن مؤتمر حفر الباطن الدولي الصحة الريفية في نسخته الثانية    3 أهداف تتنافس على الأجمل في الجولة ال18 من مسابقة دوري روشن للمحترفين    أمير جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة العيدابي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية السودان لدى المملكة    القيادة تعزي رئيس ألمانيا في وفاة الرئيس الأسبق هورست كولر    أمير الشرقية يدشن النسخة الثامنة من جائزة السائق المثالي    أمير تبوك يواسي أسرتي الطويان والصالح    مختص : متلازمة الرجل اللطيف عندما تصبح اللطافة عبئًا    ذكور وإناث مكة الأكثر طلبا لزيارة الأبناء    الأسرة في القرآن    خيط تنظيف الأسنان يحمي القلب    تفسير الأحلام والمبشرات    حزين من الشتا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القبيلة والمجتمع: لغة الصمت
نشر في الرياض يوم 24 - 04 - 2008

(فيما بعد أوضح لي خالد أن الشيخ يفرض احترام الآخرين له بالصمت، بصمته المهيب، إذ يعد الصمت دليل ذكاء وفهم ألغاز الدنيا. وإذا بحثت أمور ذات شأن عظيم يوماً في المجلس فإن الشيخ المسؤول عن قيادة قبيلته في أوقات الشدة يثبت نفسه رجلاً قليل الكلام. إنه يستمع وكوعه على المسند فيما تداعب أصابعه حبات السبحة مستغرقاً في تفكير عميق. الكل يفهم أنه يفتل ويبرم، أي أنه يعقد حبلاً فكرياً، وبهذه الطريقة يتوصل إلى قرار لا رجعة فيه بمعونة الفهم الصحيح، فهؤلاء رجال شامخون كالجبال الراسخة في الأرض، صخور من الثبات والقوة بين عامة الناس - البدوي الأخير ص 57).
هذ ما ينقله مارسيل كوبر شوك عن شيوخ البدو وهو ما تؤكده لغة الصحراء، حيث الصمت هو النص المطلق، وأنت لا تفهم الصحراء إلا عبر تفكيك صمتها الذي هو من أقوى ما تتقنه الرمال في سحباتها اللامتناهية، وكم قتلت الصحراء من أقوام جهلوا سر صمتها، ومن صمتها تعلمت الكائنات البشرية التي تعيش فيها، والكائن الصامت يظل قوة سرية لا تتكشف إلا في لحظة النطق ومن دواعي الحفاظ على اللغز البشري يكون الصمت، حيث لحظة النطق هي لحظة الكشف الأخير، وإذا ما حدث أمر جلل فإن التداول في الأمر يقتضي الأخذ والرد وليس من كرامة الشيخ أن يسقط كلامه وسط الردود والمداولات لذا فإنه يصمت حتى تحين لحظة الكلمة القاطعة التي تكون عادة هي فكرة مرت ودارت على ألسنة المتحدثين منتظرة من الشيخ أن يلتقطها بعين نسر صياد وفتاك، وهي نوع مبكر من العصف الذهني الذي صار اليوم مصطلحاً في علم إدارة الأزمات، وقد كان كذلك عند كل من عصرته الأزمات وواجه الخطر المحتدم.
حينما كنا صغاراً كنا نطرب لمشاهدة البدو في الأسواق وكلما تقابل بدويان مصادفة في أحد شوارع المدينة تقوم بينهما محادثة صامتة، أسميها صامتة لأنها تقوم على ألغاز متعمدة حيث يبدأ اللقاء بالعناق، ثم يبدأ كل واحد من الاثنين يسأل صاحبه: وشلونك، كيف أنت، ويظل يرددها مرة ومرتين وعشراً وأكثر، ورفيقه يفعل الفعل نفسه ويظل كل منهما يردد: وشلونك، كيف أنت وش علومكم.. وشلون الربع؟
وتستمر الأسئلة ولا جواب. وتظل المداورة الكلامية ونحن نشاهد ونرقب ونتعجب على اللاجواب، ولقد صار من ديدننا ترقب مثل هذا الموقف حيث نشاهد صمت اللغة ولا لغوية اللغة. ونشاهد خرير الأسئلة ولا أجوبة عليها.
ذلك مشهد لثقافة الصمت وحفظ السر، وسيكون الجواب هنا فضحاً للذات وكشفاً لها، وإذا تكشفت الذات تعرت وصارت في العراء، بينما الصمت حماية وحصانة، ولقد كان من طبع البدو ألا يسألوا الضيف الطارئ عن اسمه ولا عن خبره، ويسمونه بتسمية تغطي وجوده بينهم، وهي: ضيف الرحمن، ويخاطبونه بهذه الصفة، ولا يدفعونه إلى كشف سره، إلا لو قرر هو البوح وكشف نفسه لهم. وما عدا ذلك فإن من آداب الضيافة وخلق المعاملة الحفاظ على حق الضيف في تحصين نفسه واسمه والتدرع بالصمت.
الصمت درع وحصانة ومن تخلى عن درعه صار مكشوف الصدر للسهام ولذا قالوا: من ألف فقد استهدف، لأن التأليف كشف لما في الضمير وبوح بالرأي وإفصاح عن المستور مما يجعل صاحبه هدفاً بما أنه مكشوف ومعلن وكأنما هو شارة للتهديف، وهذا ما يحصل فعلاً مع أي كاتب يضع نفسه على الورق ويكشف عن مطويه.
في هذا النوع من الثقافة يصبح الصمت ميزة ومعنى ثقافياً سامياً وأنت في حل ثقافي في أن تخفي وتضمر، بل إن هذا ميزة ثقافية وشارة وجاهة ورفعة، وكلما أخفيت فإنك تحرس مقامك، وهذا ليس من النفاق، كما يقول الشيخ خالد، فالنفاق في رأيه يكون في الدين فحسب، أما في سائر شؤون الحياة فإن التكتم وإخفاء النية هو من أصول السلوك، وكما ينقل كوربر شوك فإن البدوي يرى التستر والتمويه وسيلتين طبيعيتين للبقاء - ص 66).
والواقع أن الحياة ببعديها الاقتصادي والسياسي وحتى العلمي - كشأن البحوث العلمية - لا تقوم إلا بشرطي التستر والتمويه إلى أن يحين وقت المكاشفة، وهو ما يسمى علمياً ببراءة الاختراع أو حقوق الملكية، وهذا قانون بشري شامل، ولئن كان في الأصل فطرياً وطبيعياً فإن المدينة قد جعلته قانوناً منهجياً وشرطاً وظيفياً، حتى صار جزءاً من وثيقة العمل وأسرار الدولة ويتحتم النطق بالقسم عليه.
في كل مرة نمعن فيها بقراءة الظاهرة البدوية نكتشف أن النسق البشري واحد في كل صيغه القيم منها والحديث، البدوي والحضري، ولقد صرخ مرة جورج ستينر، في كتابه (نحويات الابتكار - 4) بعد أن لاحظ أن العنف والاضطهاد والاستعباد الاقتصادي واللامعقولية الاجتماعية هي خصائص تاريخية سواء في زمن القبيلة أو في زمن المدينة الكبرى، سواء بسواء ولا تختلف سوى الوسيلة ولن نجد فارقاً بين فتك امرئ القيس بقتلة أبيه وفتك جورج دبليو بوش بخصومه الذين يرى أنهم قتلوا أبويه الرمزيين، أعني برجي نيويورك.
وفي معنى الصمت أذكر أن الحملة الانتخابية لجيمي كارتر في سعبينات القرن الماضي كانت تقوم على محاربة الكذب السياسي وبعد تسلمه الرئاسة تبين له أنه لا يستطيع أن يكون سياسياً وصادقاً في آن، وأنقذه مستشاره أندرو يانج حيث شرح الموقف قائلاً إنك تستطيع أن تخفي وأن تمتنع عن قول كل ما تعلم دون أن تكذب، أي أن لا تصدق ولا تكذب، وذلك لكي تكون سياسياً وحصيفاً، وهذا بالضبط هو ما نقله كوربر شوك عن البدو حيث ميزوا بين النفاق الذي هو عيب في الدين وبين التمويه والتستر الذي هو شرط للبقاء.
يأتي الصمت بوصفه لغة بين لغتين هما لغة الثرثرة ولغة العي، فالثرثار عامي وسوقي والعيي جاهل وقاصر، أما الشيخ فهو الذي يسمع أكثر ويستقبل أكثر وإذا نطق صار نطقه قراراً وحكماً، هذا هو معنى الصمت الصحراوي كشأن الصحراء التي يستنطقها سقوط المطر وتستحيلها أخيلة الشعراء والقصاصين وقراء الأثر، فتكشف للمطر ولهم أسرارها، ولكنها تتأبى أن تفصح عن نفسها إلا لمن يفهمها ويقدر خباياها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.