لعلَّ الميزة الأبرز لهذا العصر هي غياب المكان، ليس غياب المكان كمساحة جغرافية بل كانتماء، وليس غياب المكان كهجرة فحسب بل كإقامة كذلك؛ إذ إن الإقامة باتت هجرة أيضاً واقتلاعاً. ما عاد المكان الذي نحن فيه مكاننا، ما عاد لنا مكان، فالمكان الحق ليس مساحة جغرافية بل هو ذاتنا حقاً، وذاتنا هذه انتفت، لم تعد موجودة، صارت خليطاً من آخرين؛ ولذلك غابت الهوية... إن إنسان اليوم يعيش في غيابين: غياب المكان وغياب الهوية أيضاً. عوض تعريف الإنسان بأنه كائن عاقل، بات يمكن تعريفه، إذاً، بأنه كائن منفيّ: منفيّ في الخارج وفي الداخل، منفيّ في المساحة الجغرافية وفي الذات. والمنفى اتسع معناه، لم يعد يعني فقط عدم الإقامة في الوطن؛ إنما كذلك الإقامة... اتسع المنفى ليشمل الأرض كلها. أينما أقام الإنسان سيبقى منفياً: منفياً عن الآخرين ومنفياً عن ذاته، ليس له في الخارج مكان يمكن القول إنه مكان، وليس له في الداخل ذات يمكن القول إنها ذاته حقاً، وإنها ذات تخصّه وحده. وإنء بات مستحيلاً على المرء أن تكون ذاته ملكه، فكيف يمتلك مكاناً؟ وإذا الذات نفسها غائبة، هل يمكن التحدث عن مكان؟ غاب المكان، وغابت الهوية، وغابت اللغة. غاب المكان كمساحة وغاب كحضور وانتماء، وغابت الهوية كخصوصية وكذات، واللغة "مونولوغ" فردي: إذ نتحدث مع الآخرين لا نكون نتحدث إلا مع أنفسنا، وإنء هم تحدثوا لا نسمع إلا صوتنا. انتفى المكان ولم تبق منه سوى مساحات جغرافية لا تخصنا، مساحات جغرافية، لا أمكنة؛ ولأنها لا تخصّنا فهي غائبة. ونحن لسنا ذاتنا، نحن التاريخ والآخرون محشوّين فينا، نحن ذاكرة التاريخ، وذاكرة الآخرين، وذاكرة الموتى... مكاننا هناك، وهويتنا هناك، ولغتنا هناك، ماذا بقي لنا إذاً هنا؟! الإنسان كائن عاقل؟ لا، الإنسان كائن منفيّ. وهناك، في المنفى بالضبط، مكانه، وهويته، ولغته.