من الخطر الفادح ان ينتهي الخطر في النفوس بعيد انتهائه على الواقع، فإن ذلك قتل لمكامن الإحساس، وتدخل فاضح في السريرة وفسادها، فحين تتكرر النتائج يجب البحث في الأسباب، وحينما يستفحل الداء يجب النظر إلى الدواء، وهذه حقيقة منطقية وفكرية مسلم بها، ولعل هذا يومىء بإشارة واضحة إلى ما حصل في الفترة الماضية واقعة جديدة من حيث عدد المشاركين، وعظيمة من حيث التنبه لها والقبض على منفذيها، والتي تتلخص فيما قاموا به أشاوس الأمن وحماة الديار من تدارك في ضربة استباقية كانت دواءً ناجحاً لكل خطر فكري وتجاوز أخلاقي وشرعي، ولعل هذه الحادثة بدورها تقود الحديث في مسارين: المسار الأول: ويظهر في هذا الافتخار والاعتزاز والإكبار لرجال الأمن في هذه المملكة العامرة، فقد كانوا على قدر المأمول منهم، واستطاعوا ان يحققوا السبق على من يخرب ومن يهدم، في ضربة قاصمة تؤكد حرص هؤلاء الأبطال على أمنهم وبلدهم وقادتهم. المسار الثاني: أن هذا الافتخار والاعتزاز وقف عند حدود الإحساس واستشعار عظمة رجل الأمن وروعته دون الولوج فيما يجب فعله وما يمكن ان نقدمه خروجاً عن الإحساس إلى العمل، ونفاذاً بالهدف إلى الأمل، نعم.. لا يكفي ان استشعر وان احس، بل يجب ان افكر، فان فكرت بحثت، وان بحثت عملت، وان عملت غيرت، فلماذا نلقي بالتبعية والمسؤولية على رجل الأمن باعتباره الرصيد الأوفى لمثل هذه الحالات، وننسى أن رجل الأمن ربما لا يكون معنياً بهذا الفكر الضال والمضلل، فالمقصود كما بدا من هؤلاء ضرب البنية الاقتصادية بضرب المنشآت والمؤسسات، وضرب البنية الفكرية بضرب أهل العلم والفكر والمشورة والرؤى، وضرب اللحمة الوطنية بزرع التفكك والتنازع، وبهذا يبدو أن رجل الأمن ليس المقصود وحده بهذا، فإن كان المواطن المقصود في كثير من الاتجاهات التي يقوم عليها أساس الأمة، فلن يكون رجل الأمن المسؤول فقط عن الوقوف في وجه هؤلاء، ولعلي أوحي بالمقصود في المواجهة ما أراه ضرورياً من الاستعداد الفكري والاجتماعي والشرعي والأخلاقي للمجتمع بأسره قبل أن تقع الفأس بالرأس وينزف الجرح من جديد، ونطالب رجل الأمن بعد ذلك بتحمل المسؤولية، دعني أخي القارئ أسأل: هل قدم الوطن لرجل الأمن فقط جزيل الخدمات والأعطيات، ألم يقدم هذا الوطن لرجل الأعمال الكثير من الخدمات والتسهيلات حتى يكون رجلاً لائقاً مستهدفاً من ذوي الفكر الضال؟ وقد قدمت الهيئات والوزارات المسؤولة للتوعية الإسلامية بعض ما يمكن من الاستعداد والتسهيلات مما يضمن لها تغيير الانحراف الفكري في فهم النصوص الشرعية على أساس واضح من الوسطية، ولكن يظل الباب مفتوحاً لمسؤولي الدعوة والتوعية في أن يقوموا ببعض الإجراءات التي من شأنها محاربة هذا الفكر بأساليب دعوية وذلك كأن تكون بين الفترة والفترة حملة دعائية على جميع الاتجاهات تتخطى حدود الخطب الجمعية الى المؤسسات والدوائر الحكومية والمدارس والجامعات والمعاهد، وان يكون هناك قنوات لهذه المؤسسات على جميع الأصعدة، ثم ألم يقدم هذا الوطن جل الخدمات للفرد السعودي ليكون متعلماً بدءاً من المرحلة الابتدائية حتى التخرج الجامعي، وعلى الرغم من ما تقدمه وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي من جليل الخدمات للمواطن إلا أن هناك طموحات من المواطنين الى ان تقوم الوزارة ببعض الإجراءات التي تحارب الإرهاب الفكري فيما يمكن ان تساهم فيه من إجراء تربوي يشمل المناهج بشكل مباشر بعض الاطروحات داخل المؤسسات التعليمية على شكل شعارات ولوحات وعروضات توضح همجية هذا الفكر وأبعاده، وفتح المجال امام الناشئة للانشغال بالبرامج التعليمية والتقنية والرياضية في أوقات الفراغ، ولهذا كانت المخرجات من هذه الشرائح الاجتماعية مستهدفة باعتبارها تمثل المنتج الاقتصادي والفكري والحضاري، إذن بكل بساطة كلنا مستهدفون، إذن كلنا معنيون بمثل ما يعنى به رجل الأمن، وربما نكون نحن ضربة استباقية مبررة لهؤلاء المفسدين قل أن يقوم بها رجل الأمن. أخي الفاضل أريد أن اخرج بك إلى سؤال نفسك ماذا أعمل؟ لأنني يجب ان أعمل وهذا أول الغيث، فان حرصك على هذا البلد رصيدك في المحافظة عليه، ويدخل في ذلك المقيم الذي استقدمه هذا البلد ليكون واحداً من ابنائه يعيش في خيره ويفرح بفرحه ويحزن بحزنه، نعم ان على المقيم ايضاً مسؤولية الحرص بمثل ما عليك اخي المواطن مثلها، وبهذا يتحتم ان نكون صفاً دفاعياً في المجموع العام للمواطنين والمقيمين، ولكن هناك تبعية فكرية لازمة على العديد من المؤسسات الفكرية والتعليمية والعملية، ولنبدأ بمؤسسات التوعية الإسلامية فهم اقرب الناس إلى الوعي وأقدرهم على النصيحة، فأليس من الحكمة ان يكون لها دور في فكر هذا المواطن الذي انقاد إلى ادعاءات وفتاوى الضالين والمضلين في شرح من المتشابه من النصوص وفضح هؤلاء في اجتزاز النص على متابعة الزيغ والغلو مع تثمين المواقف في بعض خطب الجمعة التي بعد الحدث، وحبذا لو كانت الخطبة على مستوى المملكة في هذا الأمر ليكون لها اكبر صدى في النفوس؟ وهنا يأتي دور الداعية في محاربة هذه الأفكار من خلال فهم النص الشرعي فهماً واعياً يقوم على التوسط ولا يذهب إلى التنطع والغلو والحقد، فهل أمر الإسلام في يوم من الأيام بقتل طفل أو ذبح شيخ أو سفك دم امرأة ليس لهم ذنب إلا أنهم كانوا في مواطن الحدث؟ وأين هم من قول الله عز وجل "فمن قتل نفس بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا"؟، إنهم يأخذون من النص ما يرون انه يخدم فكرهم دون النظر إلى النتائج التي تسيء إلى هذا التوجه والأخذ به، ثم تعال معي إلى رجل الأعمال الذي قد يلجأ أحياناً إلى استيفاد العمالة الأجنبية والتي قد يكون لها دور في تسهيل دخول الفكر المضلل عبر هؤلاء دون ان يدري رجل الأعمال ذلك، فلو أحسن الاختيار وراقب هؤلاء العمال في تصرفاتهم، في صداقاتهم، في ر غباتهم، لكان خيراً له ولهذا الوطن، ولكن الأفضل من ذلك ان يسهم في دفع اليد الوطنية العاملة نحو البناء والتطور، ولنترك رجل الأعمال الى أهم ركن في هذه القضية أو في بناء الايدلوجية الفكرية المضادة لهؤلاء المرجعفين والمفسدين وأوحي بذلك إلى المؤسسة التربوية التعليمية، المدرسة أو الجامعة، نعم.. إن هذه المؤسسات تستطيع أن تعمل المستحيل، وتغير السبيل للأبناء، بدءاً من الناشئة وانتهاء بالشباب ووضع النظرية موضع التنفيذ فالنظرية منفردة أشبه بالضحك على النفس، فلو مكنا الفكر الوسطي الاعتدالي واشعرنا الابناء بفداحة الخطر المحدق من هؤلاء المفسدين الذين يقتلون بلا وازع او دليل لكان امامنا ناشئة تكبر على هذا الفكر العقدي الصائب، وتقبل الآخر من خلال النص ومن خلال الواقع في السلف الصالح، وليكن توجه هذه الناشئة في حماية الوطن توجهاً عقدياً فان هذا يشكل مكانة في النفس تضمن الدفاع عن الوطن بكل مقومات القوة، وللجهات المسؤولة البحث عن الطرائق والمناهج والأساليب التي تسهم في ذلك، أما المؤسسة العسكرية فعليها شيء آخر بعد تثمين الموقف العسكري أو المجابهة، فنحن نثمن ونقدر وقفتهم الرائدة، وما أشير إليه وأقصده هو الأمن الفكري فمن مستلزمات الوعي الوطني أن تزاد جرعات هذا الأمن الفكري الوقائي من خلال فتح نوافذ واسعة بين هذه المؤسسة الأمنية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى من خلال النشرات والندوات والزيارات وتزويد المؤسسات التعليمية بشكل مستمر ببعض التوجيهات والاحترازات والمحاضرات الهادفة التي تنمي مقومات المواطنة التي يجب ان يكون الأمن الفكري احد مقوماتها، وهنا يأتي دور الإعلام المرئي والمتطور والمقروء ليشمل الساحة بكاملها، فهو يدخل إلى المؤسسة والبيت، والشارع، والدائرة والوزارة، ويأتي تأثيره عبر مسارين، الأول شرح الحدث وإظهار مؤثراته، والثاني وضع الحلول وعمل الاستفتاءات ونقل الرؤى والتطلعات، وبهذا يكون دوره ريادياً وعظيماً وتأثيره كبيراً ومؤثراً، وإنا لنطمح من أجهزة الإعلام وكوادره موقفاً اكبر في المشاركة بالحلول والخروج من المشكلة بما قدمه سابقاً وما يمكن ان يقدمه من مهمات وواجبات واستباقات اعلامية وبهذا يظهر بعض القصور في المتطلبات الإعلامية، فالتركيز الإعلامي يكون قوياً أثناء الحدث ولكنه قبل الحدث ربما يفتر أو ينعدم، وبعد الحدث لا يقدم المتطلبات ولا يعرض لبعض الإجراءات التي تمت في محاربة هذا الفكر مع علمنا ان بعضاً منها يجب ان يظل سرياً، ناهيك عن انعدام الاستفتاءات الشعبية أو مقابلات اهالي المنخرطين في هذا الفكر ليقدموا صورة شوهاء عن هذا الاتجاه المنحرف، وكذلك ما يمكن أن يقدمه الإعلام من مشاهد إعلامية مؤثرة في ذاكرة المواطن توضح سوء أعمال هؤلاء المارقين بشكل مستمر عبر برامج دعائية أو توعوية، ثم ماذا بعد ذلك؟ إن بعد ذلك يا إخوان الوطن، الوطن الذي نسعد بسعادته ونفخر بشموخه وبقائه، إنه الوطن الذي يتعرض للأذى من بعض أبنائه ممن شوهوا نفوسهم بالملوثات الفكرية فجاسوا خلال الديار وأشعلوا نار الحقد والدمار، وفعلوا فعل الشياطين فاستهدفوا الشباب ما بين السادسة عشرة والعشرين، واستغلوا فيهم المؤثرات النفسية والمشاكل السلوكية، والضائقات المالية، واثاروا مشاعرهم فيما يعرضون لهم من صور تحرك مشاعر الهدم والتقتيل في مشاهد التعذيب والأذى، ولهذا كان الالتفات الى الفئة التي تجند هؤلاء الشباب من الداخل ضرورة أمنية لازمة لمحاربة من استهانوا في بيوتهم بين أزواجهم وأولادهم يأكلون الحلوى في الوقت الذي يموت فيه العديد من الاطفال والنساء والشيوخ في دعوة ضالة وكذبة حاقدة بما جاؤوا به من زور وبهتان.ومن هنا يحسن وضع في كل مؤسسة آلية يحظى فيها الأمن الفكري بوافر الأهمية، فان غرس هذه المنطلقات الفكرية في وقت مبكر أجدى في معالجة النفس البشرية دائماً، فالشجرة لا يفسد ثمرها إلا إذا فسدت جذورها، أو تلفت جذوعها، فكل مواطن كان من كان مسؤول في غرس هذا المعتقد الفكري في محاربة أهل المروق والضلال فان في ذلك جبر الكسر قبل أن ينكسر. @ المدير العام للتربية والتعليم بمنطقة تبوك