اليوم 13نيسان. الذكرى الثالثة والثلاثون لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان. من دولة الاستقلال في 22تشرين الثاني 1943الى 13نيسان 1975، إثنان وثلاثون عاماً. كانت نتيجتها الحرب بعد أن شهد لبنان خضات وهزات ومعارك وثورات وتقلبات في التحالفات والتركيبات وتداخلات وتشابكات بين العوامل الإقليمية والداخلية، وبالتالي تدخلات إقليمية ودولية في السياسة اللبنانية ومباريات على ساحتها!! اثنان وثلاثون عاماً، لم تبن خلالها دولة ومؤسسات باستثناء بعض الخطوات والقرارات والانجازات التي تحققت ايام الرئيس فؤاد شهاب. ورغم وجود قيادات كبيرة في البلاد تعرف التوازنات الداخلية، والصيغة اللبنانية الفريدة القائمة على أساسها، فلم تنجح التجربة ولم ينج لبنان من خطر الانزلاقات المتتالية الى مواجهات وتحديات وصولاً الى الحرب. ولو أدرك الكبار والمسؤولون منهم في مراكز القرار في تلك الفترة أهمية فرادة الصيغة اللبنانية في هذا الشرق وربما في العالم، ولو عرفوا كيف يستفيدون من الظروف لتكريس دولة واحدة وموحدة لكل ابنائها، وبناء مؤسسات قادرة على حل مشاكلهم، لما توصلوا الى الحرب رغم التعقيدات المعروفة. ولا أبالغ إذا قلت إن تجربة وحيدة فريدة شهدها لبنان في تلك العقود وعلى مر العهود السياسية المتتالية، والتي أطلقت برنامجاً سياسياً للتغيير والاصلاح الديموقراطي في لبنان تجاوز الحدود الطائفية والمذهبية والمناطقية وكان نموذجاً عن وحدة اللبنانيين آلاماً وآمالاً وتطلعات. كانت تجربة القائد والمفكر السياسي الكبير الشهيد كمال جنبلاط. الذي خاض معارك سياسية كبرى في تلك الحقبة دفاعاً عن الفقراء والعمال والمزارعين والمثقفين والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية ولتأكيد انتماء لبنان الى عالمه العربي، مؤكداً دائماً أن العروبة في مفهومه هي العروبة الإنسانية الحضارية الجامعة، المتجاوزة كل أشكال العصبيات المذهبية والطائفية أيضاً وكل حواجز القمع والتسلط على الناس وثرواتها ومصالحها ومستقبلها. ميزة كمال جنبلاط في تلك التجربة أنه كان ناقداً لها باستمرار. لم يدّع يوماً أنها سليمة من الأخطاء والثغرات والشوائب. بل ذهب أبعد من ذلك ليقدم نفسه شفاهة وكتابة في مقالات وبيانات ناقداً شفافاً لتجربته معترفاً أمام الجميع باخطائه وسوء تقديره لعوامل معينة في مراحل نضاله، وبالتالي ليقدم نفسه رجل سياسة يتعلم من تجاربه ويقف عند اخطائها ويعمل على تداركها. أهم ما في تلك التجربة اقتناعه بفرادة الصيغة في لبنان، وحرصه على التغيير من داخل النظام، لقوانين وأنظمة لا تهز الصيغة والكيان ولا تضرب التوازنات لأن الحقوق تصل لكل الناس. ومن ضمن هذه القناعة كانت نظرته للدولة كإطار جامع لكل اللبنانيين. هي الملاذ. ومؤسساتها هي المرجع والقانون هو يحكم والناس سواسية أمامه. ولذلك تعامل على رأس المؤسسات التي أدارها يوم استلم وزارات مختلفة على أساس أنها لخدمة اللبنانيين كل اللبنانيين وليست لفريق دون آخر. والأهم من كل ذلك إيمانه بالتسوية ولطالما تحدث عن جمال التسوية. حتى وهو يتقدم كان يدرك انه سيصل الى مكان يكرس فيه تسوية ما. التسوية التي تكرس جمالها بتكريسها جمال الصيغة اللبنانية والتي تتفاعل فيها كل المكونات للشعب اللبناني فتحافظ على خصوصياتها ولا تدع هذه الخصوصيات تدمر فكرة الدولة الجامعة تحت أي عنوان من عناوين الخوف أو الهواجس أو القلق أو الانعزال او الاستقواء او ما شابه. ومن هذا المنطلق كان يتمتع بصفة أساسية من صفات القيادة وهي إدراكه المدى الذي يمكن أن يصل اليه في تحركه دون تجاوزه، وبالتالي معروف أين يجب ان يقف ليكمل تلك التسوية بجمالها !! وللأمانة أقول، ربما حمت هذه التجربة وشخصيتها مع شركاء آخرين لبنان في فترات صعبة، لكنني مقتنع بأنه لو تمتع كل القادة بصفات كمال جنبلاط وترجموا قناعاتهم بالممارسة العملية لما وصلنا الى ما وصلنا اليه. بالتأكيد ال " لو" لا تبني شيئاً لكنها تطرح احتمالات وربما تفتح آفاقاً للتفكير بمسائل لا تكون منظورة في لحظات التشنج والانفعال وهنا أهمية ان يستفيد المرء من تجربته ومن تجربة غيره في الوقت ذاته خصوصاً عندما تكون القيادة، قيادة بلد ومجتمع، وبالتالي تكون المسؤولية كبيرة لأنها بمستوى الشرف، فكمال جنبلاط كان يعتبر قيادة الناس شرفاً يجب ألا يطعن أو يساء اليه من صاحبه تماماً كما من أخصامه !! من 13نيسان 75حتى 13نيسان 2008.ثلاثة وثلاثون عاماً أخرى. شهدنا فيها خمسة عشر عاماً من الحروب. كل الحروب. حروب الطوائف والمذاهب. حروب داخل الطوائف والمذاهب. حروب الأحزاب. والزواريب. والنفوذ والسلطة. حروب كل المخابرات على أرضنا. أقول دائماً الحرب الأهلية في لبنان في تلك الفترة كانت حرب الحروب. أعتقد أنها كانت كافية ببداياتها ومراحلها ونتائجها حتى اتفاق الطائف لنتعلم. مع التذكير بأن اغتيال كمال جنبلاط وحده كان كافياً ليتعلم كل اللبنانيين الذين أحبوه واعتبروا أن حلماً قد طوي. والذين كرهوه وخاصموه وحاربوه ورفضوا التفاهم معه والاستفادة من عقله وتجربته وخبرته وما شاركوه ثم ندموا بعد اغتياله لأنهم خسروا الشريك اللبناني الصادق الصافي والمؤمن بلبنان كياناً مستقلاً حراً ديموقراطياً عربياً وانسانياً لكل ابنائه!! من 13نيسان 1975حتى تشرين الثاني عام 89تاريخ إقرار اتفاق الطائف كانت سوريا اللاعب الأول والأكثر تأثيراً في لبنان بعد أن استهلكت كل المبادرات والتحركات والقرارات واللجان العربية والدولية التي اتخذت وأعلنت بشأن لبنان. وباستثناء كمال جنبلاط والمغفور له العميد ريمون إده الذي غادر البلاد بعد تعرضه لمحاولتي اغتيال، أخطأ اللبنانيون بحق أنفسهم وبلدهم في التعاطي مع أزماتهم ومع مديريها ومحركيها والمشرفين عليها. من اتفاق الطائف 89وحتى الخروج من لبنان نيسان 2005كانت سوريا المقرر الأوحد في لبنان. فأدارت كل شيء وحركت كل شيء وأخطأ اللبنانيون بغالبيتهم في التعاطي السلبي أو الإيجابي مع هذا الواقع. ومع ذلك كان دائماً هذا البلد جباراً. وهذا الشعب جباراً. لقد انتصر لبنان وشعبه على الحرب الداخلية. خرج منها مدمراً منقسماً فأعاد بناء نفسه ومؤسساته. وفي الوقت ذاته خاض حروباً أخرى بوجه اسرائيل وانتصر عليها. وبالتالي هو انتصر على نفسه على حروبه ثم انتصر على عدوه. كان ذلك إنجازاً استثنائياً لا مثيل له ويعطي أملاً كبيراً في قدرة اللبنانيين على تجاوز المحن. لكن ذلك لم يترافق أبداً مع بناء الدولة. فالمشروع الذي أطلقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكتب له النجاح، كأن المطلوب كان عدم وجود دولة في لبنان، ليبقى ساحة للصراعات لحسابات إقليمية ودولية والمسموح هو هامش محدد ودائماً مهدد !! وكانت الكارثة الكبرى عند اغتيال الرجل ولبنان لا يزال يعيش تداعياتها منذ ذلك الوقت وقد وصفت بالزلزال الكبير وبلغ الانقسام حدود الخطر الكبير أيضاً. (يتبع)