أبكي وأضحك لا حزناً ولا فرحاً كعاشق خط سطراً في الهوى ومحا * علاقتي بالصحافة علاقة قديمة جديدة متجددة على الدوام، فيوم اغلقت دكان الحلاقة في اللاذقية بسبب الإفلاس القهري، سافرت إلى بيروت ابحث عند الحلاقين، عن وظيفة أجير حلاق من النوع اللامسلكي، مقابل ثمن الرغيف، لكن أحداً منهم لم يمنحني شرف الانتماء إلى جماعة الحكي، لأن الحلاق في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كان موصوفاً بأنه حكاء، بعد أن انتهى عهد هذا الحلاق بقلع الأسنان، والحجامة، والمداواة بالأعشاب، وحتى القيام بدور السمسار العقاري، وبالنسبة لي، فإنني لم أعرف، في مهنتي كحلاق، إلا تشطيب الظهر بالموسى، ووضع كاسات الهواء لاخراج الدم الفاسد، وكذلك الغياب عن "صالون الزهور" الذي هو اسم دكاني، لقيادة المظاهرات ودخول السجون في النضال لتحرير بلدي سورية من الاحتلال، وتحقيق الجلاء والاستقلال اللذين تحققا في العام 1946، بعد ثورات وتضحيات كبرى. وكما فشلت في بيروت، في نيل شرف "أجير حلاق"، فشلت في دمشق أيضاً، رفضني جميع الحلاقين، دون امتحان أو اختبار أو حتى تجربة حول معلمية هذه المهنة، ولأنني لا أملك بيتاً، أو حتى غرفة واحدة، استأجرها للمبيت، وليس معي من النقود ما يكفي لأكل سندويشة من الفلافل، فقد تكرم صديق باستضافتي في غرفته، وفيها نمت على الحصير، وذقت "المكدوس" الذي لم أعرفه في اللاذقية، وهو باذنجان مسلوق محشو بالجوز والفليفلاء والتوابل، ولأن الغريب غريب في غربته، حسب تعبير أبوحيان التوحيدي، والزهد في الطيبات زهد نظري كما يقول، فإنني، كسائر الناس، اتخذت الزهد وسيلة للحصول على ما ادعيت الزهد به، دون طائل، وعندئذ أدرت ظهري لمهنة الحلاقة، وذهبت مع صديق إلى جريدة "الانشاء" لصاحبها المرحوم وجيه الحفّار، ملتمساً العمل كمحرر في جريدته، وعندما سألني عن الشهادات التي احملها، اخرجت له قصاصة صغيرة من مجلة "الطريق" اللبنانية، فيها أول اقصوصة نشرتها بعنوان "طفلة للبيع" لكنه لم يمسها، ولم يقرأها، واصدر حكمه بأن اشتغل كمحرر متمرن دون أجر، لمدة ثلاثة أشهر، لكنه بعد الشهر الأول، قرر ان يعطيني مئة ليرة سورية ابتداء من الشهر التالي، وهكذا ودعت عهداً طويلاً من العمل كأجير، وبحّار، وعامل في المرفأ، وجندي في البحّارة للذهاب إلى العلمين، ومحاربة رومل ثعلب الصحراء، ولأن رومل اندحر، فقد تركت الجندية، واشتغلت في معمل بدائي لصنع المسامير. ما أريد قوله، انني الآن روائي شهير، ولم أكن أعرف ان الشهرة جهنم، وأن علي، بعد الأربعين من عمري، أن ابدأ الكتابة متأخراً، وأنني، في مزدلف الشوط سأكون الحصان الرابح، متقدماً على زملائي في مهنة الحرف، وأن هذا الحصان الذي ازدلف غلاباً، سيُوضع له لجام في مربط الرواية، ويركّب له لسان وأسنان، ويطلب منه أن يحكي عن حياته، ومراحلها، وشقائها، وعن تجربته الروائية، وما هو دورها، وكيف هي حال الرواية، ولماذا تنبأت في العام 1982ان الرواية ستكون ديوان العرب، والمصادفة التي جعلت هذه النبوءة تتحقق، ومتى اكتب، وكيف أنام، وفي أي وقت أستيقظ؟ كل هذا اللغو يتكرر، وعلي، في كل مرة، ان أجيب على اللغو المكرور، بأجوبة غير مكرورة، ان اخترع كلاماً جديداً، يؤدي المعنى ولا يحمل على التثاؤب أو الملل، ولأن السؤال الجيد، يأتي بجواب جيد، فإنني انصح من يريد أن يحاورني، ان يأتي بالجديد، وأن يحمل هذا الجديد المتعة والمعرفة، وإلا كان كلاماً في الهواء، للتسلية، لتزجية الوقت، وكان حل الكلمات المتقاطعة أكثر فائدة منه، مادام حلها يحتاج إلى شيء من التفكير، وكل تفكير فيه معلومة جديدة، مفيدة، مع انني، عمري كله، لم اكترث بالكلمات المتقاطعة، ولا أطيق ان أرى مخلوقاً منشغلاً بحلها أمامي. ورغم أن القاصي والداني يعرف، من تجربته أو مما يسمع عني، انني أرفض المقابلات الصحفية، واكتفي بمقابلتين أو ثلاث في العام، فإن الزملاء الصحفيين يصرون على اجراء عشرات المقابلات، متذرعين بالقول إن رؤساء تحرير صحفهم، طلبوا منهم، وبتأكيد إذا لم أقل بإلحاح، اجراء مقابلة معي، حول مواضيع ثقافية راهنة، تدور، غالباً، حول أزمة الثقافة العربية، أو محنة الفكر العربي، أو الرواية وتجربتي فيها، أو وضع الرواية الآن، أو سبب انتشاري الواسع كروائي، حسبما تفيد دار الآداب اللبنانية التي تحتكر نشر أعمالي الروائية.. آه كم هي صعبة مهنة حملة الأقلام!