رعاية المسنين والنظريات العلمية : إن العناية بالدراسة العلمية للشيخوخة تعتبر من ظواهر القرن العشرين، حيث بدأ الاهتمام بهذا النوع من الدراسة من جانب علم الشيخوخة وعلم الشيخوخة الاجتماعي منذ الخمسينيات في المجتمع الأمريكي . وذلك بفعل التغيرات الهائلة التي حدثت في نسيج النظام الاجتماعي والاقتصادي الأمريكي آنذاك . فمع تفتت الأسرة كنواة اجتماعية، برزت هذه المشكلة في المجتمع الأمريكي، لذلك توجهت التخصصات العلمية الاجتماعية لدراستها ووصفها، والوصول إلى حلول علمية لها تنسجم والمتغيرات الاجتماعية الجديدة . وطرحت في الساحة العلمية ثلاث نظريات فيما يخص المسنين والرعاية الاجتماعية. وهذه النظريات هي الآتي: @ نظرية فك الارتباط : وهي من أقدم النظريات في علم الشيخوخة، وتنص على أن عملية التقدم في السن باعتبارها تتضمن بالضرورة تقليص النشاط أو الانسحاب الذي لا بد منه من جانب المسن، الأمر الذي يؤدي إلى الحد تدريجيا من تفاعله مع المحيطين به في الوسط الاجتماعي . فالانسحاب يحرر المسن من الضغوط التي يفرضها عليه المجتمع من أجل الاستمرار في الإنتاج، كما أنه يهيئ الفرصة للأجيال الشابة لكي تحل محل المسنين وتقوم بالأدوار المطلوبة . أثارت هذه النظرية كثيرا من الجدل، وكانت عرضة لانتقادات شديدة على أساس أن حتمية فك الارتباط أو الانسحاب أمر غير مقبول . إضافة إلى أن الاتجاه السائد اليوم في المجتمعات المعاصرة على خلاف ذلك . حيث يشجع المسنون على الاعتماد على الذات والاندماج في الحياة وممارسة الأنشطة لأطول فترة ممكنة . وإنه ليس من مصلحة المسنين تحقيق هذا الانسحاب . @ نظرية النشاط : وظهرت هذه النظرية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وتقوم على التسليم بأن للمسنين نفس الحاجات الاجتماعية والنفسية المرتبطة بممارسة الأنشطة المختلفة، مثلهم في ذلك مثل الفئات العمرية الأخرى . فالشيخوخة السوية تتطلب المحافظة على مختلف الأنشطة والاتجاهات التي سادت في حياة المسن في أواسط العمر وذلك لأطول فترة ممكنة . وبناءً على هذه النظرية يصبح السبيل إلى شيخوخة ناجحة، هو المحافظة على أعلى درجة من النشاط . إذ كلما تدنى هذا النشاط، انعكس سلبا على التكيف مع الحياة، وما يترتب على ذلك من عدم إحساسهم بالنفع وبالتالي عدم رضائهم عن تلك الحياة . @ نظرية الاستمرار: وتقوم على الجمع بين الاستمرارية في عملية التنشئة الاجتماعية وبين مفهوم مراحل الحياة في علم نفس النمو، ليصبح جوهر النظرية هو استمرار أنماط السلوك في مراحل العمر المتتالية. ويرى أصحاب هذه النظرية من علماء الاجتماع أن تجارب الفرد في مرحلة ما من حياته تعد للدور أو الأدوار المطلوبة منه في المرحلة التالية، بل إن تربية الأطفال تسهم في استمرار عملية التنشئة الاجتماعية، من خلال إعداد الطفل للمراحل المتعاقبة من الحياة . وبناء على ذلك يفسر أصحاب النظرية ما قد يصاحب التقاعد من مشكلات، على أساس أن التقاعد لا يحقق الاستمرار، بل قد يعد انقطاعا عن مراحل العمر السابقة (توقف العمل كدور هام في الحياة، عدم الحاجة إلى مهارات العمل، ضعف دوافع الإنجاز والنجاح). وحفل القرآن الكريم بالعديد من الآيات، التي توضح الأعراض التي تصيب الإنسان في مراحل العمر المتتالية . فقد قال تعالى (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير). وقال تعالى (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير). وقال عز من قائل (ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا). فالشيخوخة ليست نشاطا دائما، وليست انسحابا تاما من الحياة . وإنما هي مرحلة من مراحل عمر الإنسان . ينبغي أن تستثمر في العبادة وفعل الصالحات وممارسة الحياة بما يناسب الوضع النفسي والجسدي للإنسان الذي وصل إلى هذه المرحلة من العمر. فالانسحاب من الحياة بدعوى الشيخوخة والتقاعد، يفضي إلى ضياع الوقت وبالتالي جزء من عمر الإنسان فيما لا فائدة منه . والعمل الشاق الذي لا يتحمله الإنسان الشيخ والمسن أيضا فيه ظلم إلى الإنسان وذلك لأن لبدنك حقا عليك . وإن التقدم في العمر والوصول إلى مرحلة الشيخوخة، تختلف من شخص لآخر، وتتأثر حياة كبار السن بالعديد من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والنفسية . فالمجتمع الذي تسوده أخلاق الأثرة والأنانية والمصلحة الضيقة، لن يجد المسنون فيه رعاية لائقة ومناسبة. كما أن المجتمع الذي تسوده قيم العدل والإحسان والإيثار، فإنه سيبدع الكثير من أشكال الرعاية لكل الحلقات الضعيفة في المجتمع، ومن ضمنهم كبار السن . لذلك فإن مجموع العوامل الاجتماعية والثقافية، تؤثر سلبا أو إيجابا في مستوى الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية للمسنين . وإن المسن القادر على العطاء، حينما يتوقف ويخلد إلى الركود والهمود ويتعذر بتقاعده دون تشغيل طاقاته واستثمار إمكاناته، سيصاب بالعديد من الظواهر المرضية سواء على المستوى النفسي أو المستوى الجسدي . لذلك ينبغي لنا كمجتمع أن نبحث عن التدابير اللازمة والأطر المناسبة، لكي يستمر المسن في القيام ببعض الأعمال المناسبة، وذلك ضمن إطار وسياق تنموي - اجتماعي، لا يستثني كبار السن عن القيام بالأدوار المطلوبة . ولعل من المناسب أن نشير إلى ضرورة إنشاء مراكز أو نواد للمسنين لمساعدتهم على الاستمرار في النشاط العقلي والجسمي والنفسي . ومن الأهمية بمكان أن تكون أنشطة هذه المراكز والأندية ملائمة نفسيا وجسديا واجتماعيا للمسنين . وذلك لأن لكل فئة عمرية متطلبات معينة لا بد من الوفاء بها . ومن الضروري أن يكون لدى المسن الاستعداد والقدرة على المحافظة على أسلوبهم في الحياة عند التقاعد . ولابد من إدراك أن المسنين ليسوا فئة متجانسة مع بعضها البعض . فلكل مسن ظروفه الخاصة وأوضاعه الموضوعية التي تحدد بشكل أو بآخر الطريقة المثلى للتعامل معه . وما نود قوله في هذا المجال : إن العمل على إخراج المسن من حالة العزلة، وإدخاله في الدورة الاجتماعية الطبيعية بما يناسب! مكاناته النفسية والجسدية وتاريخه الاجتماعي، يعد جزءاً أساسيا من مفهوم رعاية المسنين في المنظور الإسلامي . وذلك لأن الشعور بالعجز والبطالة والكسل والاعتماد على الآخرين، هو الذي يساهم في تردي أوضاع المسنين في الكثير من البلدان والمجتمعات . ولا بد أن ينظر الإنسان المسلم "إلى التقاعد عن العمل الرسمي أو اعتزال الخدمة على أنه متغير إيجابي في حياته يحرره من قيود الوظيفة ويطلق لطاقاته وقدراته العنان في أعمال تعود بالنفع عليه وعلى أسرته ومجتمعه وأمته ودينه. إن الإسلام يرى أن مهمة الإنسان في الحياة الدنيا هي خلافة الله في الأرض (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة )، وإن دوره في أداء هذه المهمة وغايته منها هو عبادة الله عز وجل : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) . ومفهوم العبادة في الإسلام يتسع حتى إنه يشمل جميع الأعمال والأنشطة والمشاعر وحتى الرغبات التي يطلق لها العنان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله . ومن هنا فالعمل جزء من العبادة في تصور الإسلام، ويرتبط العمل في القرآن الكريم بالإيمان ويرتبط بقيمة أخرى هي إتقان العمل واستمراريته حتى "ولو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"، كما جاء في الحديث الشريف.