فبكلمات قليلة، ولكن مقطّرة ومكثّفة، يختصر عبدالوهاب رأيه بجمال عبدالناصر وأنور السادات، فيقول بالحرف الواحد:"كان جمال عبدالناصر يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول، ويعلم أنه يخدع الجماهير. ومع ذلك تصدقه الجماهير بتحمس شديد. وكان أنور السادات يخطب في الجماهير، وهو مؤمن بما يقول، ولا يكذب، ولا يخدع، ومع ذلك كانت الجماهير لا تصدقه، وتقول عنه إنه ممثل، كذاب.. ؟ لم يكسب عبدالناصر ولاء أحد من كبار أدباء وفناني مصر في زمانه باستثناء أم كلثوم. فالمجاملة، أو النفاق على الأصح، كان طابع علاقة هولاء "الفترينات" - كما كان يسميهم - به، إذ يبدو بوضوح الآن، وبعد ثلث قرن على رحيل "حبيب الملايين" - كما كان يُسمى - أن أحداً من هؤلاء لم يكن يحبّه في أعماقه. فطه حسين، بسبب كراهيته الشديدة له ولأنه ألغى مصر السابقة عليه، أي مصر ما قبل 1952، وصل إلى حد إلغاء أي دور لمصر في حاضر الثقافة العربية بعد أن تحولت من بؤرة للتمدن والحضارة إلى عالم تحكمه المخابرات والشعارات. فقال في بيروت في محاضرة شهيرة له: إن بيروت، لا القاهرة، أصبحت عاصمة الثقافة العربية. وعباس محمود العقاد كان واضحاً، سواء في حياته أو بعد موته، أن ولاءه كان لمصر ما قبل ثورة يوليو لا لأية مصر أخرى، رغم كل المشاكل التي كانت بينه وبين الملك فؤاد وبين سواه من السياسيين المصريين في زمانه. أما توفيق الحكيم فقد اعتذر مراراً عن مقابلة عبدالناصر ولم يره سوى مرة واحدة عندما قلّده عبدالناصر أعلى وسام مصري، وعندما رحل عبدالناصر، قال فيه توفيق الحكيم ما لم يقله مالك في الخمر. ووثائق ما قاله مدوّنة في كتابه "عودة الوعي".. ولمن يريد الاطلاع على موقف نجيب محفوظ من عبدالناصر والناصرية، سواء في حياة عبدالناصر أو بعد وفاته، نحيله إلى كتاب رجاء النقاش عن نجيب محفوظ الصادر عن دار "الأهرام"، ومنه يتبين أن أحداً لم يمتعض في عصر سياسي كما امتعض محفوظ في عصر عبدالناصر. وينضّم الآن، ولو متأخراً، المطرب الكبير محمد عبدالوهاب إلى هؤلاء الأدباء والفنانين الكبار الذين جاملوا، أو اضطروا على الأصح، لمجاملة عبدالناصر عندما كان في ذروة سطوته وجبروته. فها هو في "أوراقه الخاصة جداً" الصادرة حديثاً في القاهرة، يزاحم الأعلام في كراهيتهم الشديدة لعبدالناصر، فيتقدم صفوفهم ليقول لهم، ولو بإيجاز شديد، أنه أكثر ولاءً منهم لمصر الملك فؤاد والملك فاروق، وأكثر كراهية منهم لناصر والناصرية. فكأن مطرب "الملوك والأمراء" - وهو أحد ألقاب عبدالوهاب - أبى أن يغادر هذه الدنيا قبل أن يبرئ ذمته تجاه التاريخ، وقبل أن يثبت فعلاً أنه ابن بار لمصر الملكية التي وأدتها ثورة يوليو، والتي كان عبدالوهاب أحد إنجازاتها الفنية والثقافية والحضارية. فبكلمات قليلة، ولكن مقطّرة ومكثّفة، يختصر عبدالوهاب رأيه بجمال عبدالناصر وأنور السادات، فيقول بالحرف الواحد: "كان جمال عبدالناصر يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول، ويعلم أنه يخدع الجماهير. ومع ذلك تصّدقه الجماهير بتحمس شديد. وكان أنور السادات يخطب في الجماهير، وهو مؤمن بما يقول، ولا يكذب، ولا يخدع، ومع ذلك كانت الجماهير لا تصدقه، وتقول عنه إنه ممثل، كذاب.. سبحان الله". ويضيف عبدالوهاب: "ربما كان الفرق بين جمال عبدالناصر وأنور السادات، هو أن عبدالناصر كان سيئاً، ولكن من حوله كانوا يؤمنون به، وكان أنور السادات خيّراً، ولكن من كانوا حوله لم يؤمنوا به". إلى هذه الدرجة كان عبدالوهاب يكره عبدالناصر ويجامله في الوقت نفسه كان المطرب الكبير يجامل "الفرعون"، و "الدكاتور"، ولا يملك سوى التماهي مع خدمه وعبيده. ولكنه حتى وهو يجلس إلى جانبه في بعض الحفلات والمآدب، ويلحن له الأناشيد التي يطلبها منه، أو التي تطربه وتنال رضاه، كان مضطراً إلى ذلك. "فالأسلوب الأنيس في مخاطبة الرئيس"، وهو الأسلوب الوحيد الذي ساء تلك الفترة، والذي اضطر عبدالوهاب، كما اضطر كثيرون سواه، إلى استخدامه، والإذعان هو الموقف الوحيد الذي وجد كثيرون - منهم عبدالوهاب - أنه لا موقف سواه أمامهم. وها هي الأيام الراهنة تبدي لنا أن مطرب "الملوك" و"الأمراء"، اضطر لأن يُطرب "الرئيس" و"الرؤساء" عن غير اقتناع منه بأن يغني.. فالمغني كان محكوماً عليه بالغناء، ولو أنه لم يكن يملك ما يشجي الرباب والوتر! عبدالناصر كان سيئاً. كان يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول. كان يعلم أنه يخدع الجماهير. صمت عبدالوهاب عن كل ذلك في عصر عبدالناصر، أو في عصر كاتم الصوت، ولكن ليرفع صوته في ما يشبه الوصية قبل أن يغادر هذه الدنيا، ولو في أوراقه الخاصة التي كُشفت مؤخراً. لم يجرؤ على أن يذيع رأيه هذا، لا في الصحف ولا في كتب مطبوعة، وهو على قيد الحياة، خوفاً من هذه العاقبة أو تلك.. ترك أوراقه ومضى وكأنه ترك "لنهلة" أو لغير "نهلة" بعد رحيله تقديم طبع هذه الأوراق أو عدم طبعها. ولهذا مدلولاته الكثيرة أيضاً. ولكن علينا ألا نذهب بعيداً في تقدير عاطفة عبدالوهاب لأنور السادات. فكلاهما، وبنظر عبدالوهاب، ومن حيث الأساس، من مغارة واحدة. ولكن السادات كان أفضل من عبدالناصر بنظره، لا لأنه منحه لقب الجنرال، وهو لقب فولكلوري في الواقع لا اعتقد أن عبدالوهاب أُعجب به، أو توقف عنده طويلاً، بل لأن السادات طوى تلك الصفحة الناصرية البائسة التي كثر فيها الضجيج وقلّ ما ينفع الناس.. فالسادات مغفورٌ له كل ذنوبه لأنه أراح المصريين من عبء كبير لا يُطاق، ثم ان السادات لم يكن صنيعة عبدالناصر، بل كان أيضاً ابن مصر السابقة على ثورة يوليو، وكانت له أيام فيها. ولو لم يكن السادات يشارك عبدالوهاب، ومن لفّ لفّ عبدالوهاب، رأيهم في الناصرية لما أقدم على القطع معها على النحو الذي فعل. فهو إذن، وعلى الرغم من كل شيء، رجل خيّر، ولكن مشكلته أن من كانوا حوله لم يكونوا يؤمنون به. ولا شك أن من أسباب الإيجابية التي أبداها عبدالوهاب تجاه السادات، كون هذا الأخير قد سار على "خط عبدالناصر" وبيده ممحاة! على أن عبدالوهاب لم يكتف بما قاله عن عبدالناصر، بل أشفعه بأحكام أخرى تناولت عهده وما تخلل هذا العهد من ممارسات. لقد أراد أن يقدم إثباتات أخرى على أن الناصرية كانت سيئة. لم يكتف بأن يصدر حكماً، وإنما أرفق هذا الحكم بالحيثيات اللازمة له حتى يكون حكماً مستكملاً لكل لباقته القانونية. ولأنه كان فناناً، فقد استقى بعض حيثيات حكمه من القاموس الذي كان شائعاً يومها، ومنه كلمات "الاشتراكية" و"الجماهيرية" وما إليهما. فقد قال عبدالوهاب: "من يوم أن أصبحت السياسة سياسة "جماهيرية" وظهرت كلمة "اشتراكية"، فسد الفن. في السابق كان الذي يعاون الفن الملوك والأمراء أو الصفوة.. أي من لديهم حسن استماع. كان يوجد فن رفيع. ولكن الأغلبية والجماهيرية، لا تدفع فناً إلى الرقي".. وسيشهد عبدالوهاب بالقرآن الكريم لإثبات وجهة نظره في أن الأكثرية ليست دائماً على صواب: لقد دفع القرآن الأكثرية فما من آية تشير إلى الأغلبية إلا وكان الناس لا يفقهون، ولا يبصرون، ولا يعلمون.. أين المستمع المتأمل الواعي من العامل والسبّاك والنجار وما شابه ذلك حتى أكرة الباب عندهم كان فيها فن". ونتابع رأي عبدالوهاب في الناصرية في أحوال زمانه في عدد مقبل.