لو أخذنا الليبرالية بوصفها الآلية التي تحرر الفرد من شروط الواقع ومن قيود المجتمع وتجعله أكثر استيعاباً للعالم، متفهماً للاختلاف ومتسامحاً مع الجميع، انطلاقاً من كونه لا يحكم على شيء من زاوية ما يريده الآخرون، الأحياء منهم والميتون، بل من ما يريده هو ومن قناعته هو، مؤمناً في نفس الوقت بأهمية قناعات غيره، لو أخذنا هذا المعنى العام وجعلناه يشمل حتى الجمادات، لأمكن أن نقول وبكثير من الثقة أن جهاز (الرسيفر) الرابض تحت تلفزيوناتنا هو الليبرالي الوحيد على هذه الأرض، بل هو الأوحد الذي لم ولن يصل أحد إلى تسامحه وقبوله لجميع الأفكار والمعتقدات. ففي الوقت الذي يميل فيه كل البشر إلى التصنيف وإلى اصطفاء فئة من الناس وجعلها الأفضل والأعلى من غيرها، وفي الوقت الذي نسعى فيه، أنا وأنت، إلى تحديد علاقاتنا مع بقية البشر بناء على قربهم وابتعادهم عن الأفكار التي نؤمن بها، متحدثين بلطف عمن يوافقنا، ومعنفين ومتمنين الموت والهلاك لكل من يخالفنا، في هذا الوقت، يأتي جهاز الرسيفر ليعلمنا أصول التعامل المتحضر مع فكرة الاختلاف ويقدم أنموذجاً مثالياً ومطلقاً للقبول والتسامح. انظر إليه وإلى القنوات التي في داخله، إنه لا يرفض أي قناة مهما كان توجهها، ففيه ستجد القناة الإسلامية وهي تجلس بهدوء جوار قناة مسيحية، وستجد السنية مع الشيعية، الدينية مع الملحدة، المحافظة مع المنفلتة!، قنوات الأغاني والأناشيد، قنوات الأطفال والكبار، القنوات الوثائقية العلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، مع القنوات الإخبارية والترفيهية، كلها يقبلها (الرسيفر) بلا تشنج ويتعامل معها بنفس الاهتمام والاحترام من دون تفضيل إحداها على الأخرى. ومع أن الدرس الذي يقدمه لنا (الرسيفر) عظيم جداً إلا أننا لم نتركه في حاله وأصبناه بلوثة عقولنا التي لا ترتاح إلا إذا صنّفت البشر وقسّمتهم، فهانحن نمسك بالريموت كنترول ونبدأ في ممارسة هوايتنا المحببة (التصنيف) فنقسّم القنوات إلى مرغوبة ومكروهة، نحذف بعضها ونبقي على بعضها الآخر ليس لأن هذه أجود من تلك بل فقط لأن ما نختاره من قنوات يتماشى مع رغبتنا في التصنيف والتمييز. أي أننا في النهاية تمكنا من لجم تسامح (الرسيفر) وأرغمناه على أن يصبح مثلنا، عنصرياً بغيضاً، ومتطرفاً كريهاً!