منذ بداية الأزمة السياسية في لبنان إثر استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل من الحكومة بتاريخ 2006/11/11وإصرار المعارضة على عدم العودة الى الحكومة والمطالبة بحكومة وحدة وطنية يكون لها فيها الثلث المعطّل الذي قال عنه الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عمرو موسى انه أمر معيب إذ لا يجوز الحديث عن تعطيل فلبنان معطّل "خلقة" - حسب تعبيره - أي معطّل بما فيه الكفاية عملياً، منذ ذلك الوقت والأمين العام يحاول إيجاد مخارج للأزمة، حتى أنه وفي البداية طرح فكرة تقوم على أساس تشكيل حكومة وحدة وطنية يكون فيها للأكثرية 19وزيراً وعشرة وزراء للمعارضة ووزير ثلاثيني سمّي الوزير الملك على أساس أن هذا الوزير لا يستقيل. فتستقيل بعده المعارضة فتسقط الحكومة وأن يكون حيادياً أي لا يصوت مع هذا الفريق أو ذاك وذلك لضمان المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات. يومها قامت قيامة المعارضة واعتبرت أن هذا الطرح هو بدعة دستورية، فكيف يمكن تقييد وزير وحرمانه من ممارسة صلاحياته الدستورية؟؟ ولماذا هذا الوزير أصلاً؟؟ ورفضت المعارضة الطرح وأصرت على الثلث المعطّل أي أن يكون لها ثلث عدد الوزراء زائداً واحداً لمنع الأكثرية من ممارسة حقها وتكريس تمثيلها، إذ أن القرارات الكبرى تحتاج الى أصوات أكثرية الثلثين إذا لم يتم التوصل الى توافق حولها كما ينص الدستور اللبناني. استمرت الأزمة. وعطلت المعارضة كل فرص الحل مصرة على موقفها. رفضت البدعة الدستورية كما سمتها باختيار الوزير الملك. كنت يومها - ولا أزال - أقول إن حكومة الوحدة الوطنية لا تقوم في أي دولة من الدول إلا على أساس سياسي. فعندما نتفق في السياسة ونصوغ الأساس السياسي للاتفاق تسهل معالجة كل القضايا. نتفق. نحدد الورشة التي نريد إطلاقها، ونحدد احتياجاتها ونختار عدتها. الاتفاق السياسي هو المعبر الى كل شيء وهو الأساس. وهذا يتطلب حواراً حول النقاط الخلافية. مهما كانت هذه النقاط آخذين بعين الاعتبار أننا وقبل الاستقالة وفي شهر مارس 2006كنا قد اجتمعنا كقوى سياسية مختلفة حول طاولة حوار في مجلس النواب واتفقنا على عدد من النقاط بالإجماع وهي : المحكمة الدولية - العلاقات الدبلوماسية مع سوريا - سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها والاهتمام بالقضايا المعيشية والحقوق المدنية للشعب الفلسطيني - وتحديد الحدود مع سوريا في مزارع شبعا. طبعاً لم ينفذ شيء من ذلك بسبب رفض سوريا من جهة وتلازم وتقاطع موقف المعارضة معها. وعندما اندلعت الأزمة وذهبنا مجدداً الى المطالبة بالاتفاق السياسي الذي يستوجب حواراً لاسيما وان تطورات حصلت في 2006أبرزها الحرب الاسرائيلية على لبنان ودخول الجيش الى الجنوب ووجود القوات الدولية وفق القرار 1701، وما تلا ذلك من تداعيات سياسية في الداخل، كانت المعارضة ترد على دعوتنا الى الحوار برفضه تحت عنوان : " إن الحوار مضيعة للوقت" "لقد جربنا وفشل" فكنا نقول : "عدم الحوار هو مضيعة للوقت" "لا بديل عن الحوار" "والحوار نجح لكن تنفيذ نتائجه تعثر بسبب عدم التزامكم". اقتربنا خلال الصيف الماضي من استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. جددنا الدعوة الى الحوار والاتفاق السياسي لفتح معبر آمن أمام الرئاسة ثم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. أصرت المعارضة على موقفها. "لا حوار. نريد الثلث المعطل وحكومة الوحدة الوطنية ولو قبل نصف ساعة من انتهاء ولاية الرئيس السابق ولا نقبل بغير ذلك" ... فجأة خرج الرئيس نبيه بري في ذكرى الإمام موسى الصدر، وبعد فشل كل الوساطات ومحاولات الحل مع المعارضة، خرج ليقول : "يا جماعة تعالوا لنتفق على شخص الرئيس". درسنا الأمر، وافقنا وذهبنا الى البحث عن شخص الرئيس. ونحن نتحاور من خلال النائب سعد الحريري مع الرئيس بري بدأ بعض أطراف المعارضة (حزب الله - عون) يقصفون الحوار ويضعون شروطاً سياسية وهم الذين كانوا يرفضون الحوار ويصرون على الشخص فقط "لأن لا وقت لدينا لإنجاز كل شيء قبل الاستحقاق الرئاسي". راحوا يقولون : "نريد رئيساً يحمي المقاومة. يلتزم ببقاء سلاحها. نريد أن نعرف من هو قائد الجيش المقبل ومدير المخابرات. ونريد الثلث المعطّل لضمان عدم حصول التوطين، ولضمان عدم التفرّد بالقرارات الاقتصادية...." ثم ذهب العماد عون ليقول : "ولاية رئيس الجمهورية سنة ونصف ما دام توافقياً" وهي في الدستور ست سنوات. وحمل المبادرات "شروطاً تعجيزية" وقال : "عليكم أن تقبلوا بما أقدمه اليوم وإلا كل يوم ستجدون شرطاً جديداً مني على الطاولة"!! هذا ما أعلنه بوضوح. ثم سحبت المعارضة تفويض التحاور من يد الرئيس بري وسلمته الى العماد عون حيث قالوا : " إنه المفوض من قبل المعارضة بالتفاوض وكل ما يوافق عليه توافق عليه المعارضة"!! هنا عادت المعارضة الى ما كنا نطالب به أي الاتفاق السياسي بعد أن كانت تصر على عدم الخوض فيه، وظهر ذلك أكثر عندما توافقنا على العماد ميشال سليمان كمرشح لرئاسة الجمهورية وهو كان أبرز مرشح على لائحتها. لكن عندما وافقنا عليه علناً بدأ التشكيك به من قبل المعارضة وراحت دائرة الشروط تتوسع حتى وصلنا الى شروط تعجيزية لا يمكن الموافقة عليها. وانطلقت هنا المبادرة العربية بقرار جماعي أول ثم بقرار جماعي ثان بعد أن رفضوا الأول تحت عنوان عدم الموافقة على تفسيره، ثم رفضوا الثاني وازدادت حملة التشكيك بقائد الجيش وبالمؤسسة بعد أحداث الأحد الأسود المشؤوم، وعطلوا إمكانية نجاح الأمين العام للجامعة العربية في تحقيق أهداف مهمته وتحركه، وتعرضوا لشخصه بشتى أنواع الاتهامات الظالمة وأشكال التحامل والتجني المختلفة. ومع ذلك استمر محاولاً، في ظل تعقيدات سورية مواكبة بطبيعة الحال لموقف المعارضة. اليوم، كان من المفترض أن يعقد لقاء رباعي حواري جديد برعاية الأمين العام بين فريقي الأكثرية والمعارضة، يؤسس لاتفاق ننتخب على أساسه يوم الثلاثاء العماد ميشال سليمان وتشكل حكومة وحدة وطنية انطلاقاً من الأسس الدستورية. جاء وفد الأمانة العامة الى بيروت منذ أيام. التقى ممثلي المعارضة فكانت مطالبهم تعجيزية وغريبة عجيبة. يريدون حكومة من 30وزيراً. لا يستقيل رئيسها (وهذا حق دستوري له) ولا تستقيل بطريقة أو بأخرى أي لا يتفق ممثلو رئيس الجمهورية مع الأكثرية مثلاً. وإذا سقطت الحكومة تشكل على الأسس ذاتها. يعني ما كانوا يرفضونه منذ عام ونيف مع الوزير الملك وسموه بدعة دستورية يريدون اعتماده الآن وتكريس 30بدعة دستورية في الحكومة وذلك تحت شعار المشاركة والضمانات!! هل في ذلك تسهيل لمهمة الأمين العام ورغبة في الحل؟؟ فوق ذلك يريدون مشاركة رئيس الجمهورية في اختيار وزرائه وذلك لضمان الثلث المعطل في عملية التفافية على الأفكار التي طرحها الأمين العام. أما الأخطر فهو التراجع عن مقررات الإجماع في الحوار. نعم، يصرون على كتابة احترام مقررات الحوار - وليس الالتزام بها - وكأن طاولة الحوار عقدت للوصول الى اتفاق بالإجماع وبدون التزام بها!! وهذه بدعة سياسية غريبة عجيبة جديدة في التعاطي السياسي، وفي المقابل يصرون على الالتزام بكل مطالبهم السياسية التي تضمن تفردهم بكثير من القرارات المصيرية دون الإشارة الى القرارات الدولية مثل ال 1701الذي تعمل بموجبه قوات الطوارئ الدولية في الجنوب بعد حرب ال 2006، والقرار 1757الذي بموجبه أنشئت المحكمة الدولية... وأضاف مندوب العماد عون الى هذه الشروط والطلبات شروطاً لا تمت بصلة الى الدستور أو الى نص المبادرة العربية وفق أي تفسير يمكن اعتماده!! ويأتي كل ذلك بعد اغتيال المسؤول العسكري والأمني الأبرز في حزب الله في دمشق عماد مغنية وتهديد الأمين العام للحزب بازالة اسرائيل والدخول في حرب مفتوحة معها وهو الذي كان قد قال على طاولة الحوار بأن الحزب سحب من أدبياته مسألة الصراع مع اسرائيل عسكرياً خارج إطار الأرض اللبنانية والصراع محصور بتحرير مزارع شبعا وتكريس حقوق لبنان على أرضه فقط!! هذا الموقف أثار هواجس ومخاوف كثيرة عند فريق كبير من اللبنانيين الذين يشعرون بأنهم معرضون لخيارات سياسية كبيرة مكلفة دون أن يكون لهم أي رأي فيها او شراكة ويعتبرون أن الذي يطالب بالشراكة هو الذي يمارس التفرد والاستئثار ويمارس الحرمان على شريكه!! فهل في ذلك تسهيل للحل في لبنان؟؟ سواء أكانت الحسابات داخلية، أم مرتبطة بحسابات سوريا وسياساتها رغم مقتل عماد مغنية على أرضها وما رافق ذلك من ملابسات وتساؤلات، فإن لبنان في النهاية هو المستهدف والمبادرة العربية وحل الأزمة. والمعارضة هي التي تعقد الحلول، وفقاً لما ذكرنا، خصوصاً لناحية الاتفاق السياسي الذي رفضوه، ثم عادوا الى المطالبة به، ثم حصروه بما يريدونه وحرموا شركاءهم مما يريدون مناقشته على الأقل!! مهما بلغ الظلم والتجني من مدى، فإن انعكاسات هذه السياسة ستكون سلبية على لبنان كل لبنان وعلى كل اللبنانيين وعلى المقاومة التي حققت انتصاراً كبيراً على اسرائيل ومكاسب كثيرة وإنجازات مهمة في سياق الصراع مع العدو، لكن كل ذلك مهدد بالسياسة الداخلية التي تعتمد!! إنهم يقولون للبنانيين : اختاروا نوع الشلل الذي تريدون. أنتم محكومون بالشلل. لكم حق اختيار النوع. أتريدون شللاً في مؤسساتكم كما هو الوضع الآن وسنكمل على الحكومة؟؟ أم تريدون رئيساً وفق مشيئتنا وحكومة وفق شروطنا يكون كل شيء فيها مشلولاً؟؟ نقول : لا هذا ولا ذاك ولا الشلل. إذا كان برنامج وهدف المعارضة الشلل، فإن قرارنا العمل. العمل من أجل لبنان واللبنانيين متمسكين بالشرعية!!