من المعروف أن الإنسان كائن ذو قدرة أكبر من غيره من الكائنات الحية على الاختيار، لكن ذلك لا يعني انه حر.. حرية مطلقة،لأن الحرية في حقيقتها تجاوز للقيود سواء كانت قيوداً وراثية أو بيئية، ولا يعني ذلك - أيضاً - انه يتميز بعقل مطلق لأن لا شيء يمكن أن نسميه بالعقل المطلق، وإنما يعني أن عقلانيته في صراع دائم مع القيود ومن ثم تصير مهمة التربية الأساسية تنمية عقلانية الإنسان أو بمعنى آخر تطوير قدرته على الاختيار على أساس عقلاني. ووصف الإنسان بصفة العقلانية يتضمن كونه قادراً على التفكير، لكن ليس كل ما يرد إلى الذهن من خواطر وتصور يعتبر تفكيراً، وليست كل عقلانية عقلانية مرغوبة، وحتى نفسر هذا القول نسأل أولاً: ما التفكير؟ إن العقل يعمل وان كان نائماً ولا يستطيع أحد أن يمتنع عن التفكير، جرب - أيها القارئ الكريم - أن تغمض عينيك وتحاول البعد عن كل المؤثرات وتتوقف عن التفكير!! لن تنجح في هذا إلا لثوان معدودة وبعد تدريب طويل لكن هذا النوع من التفكير ليس هو ما أقصده بالتفكير العقلاني، انه يسمى (تيار الوعي) أي تدفق الصور والخيالات والكلمات بلا رابط، وهو المادة الخصبة لأحلام اليقظة التي تداعب فيها أمانينا أو ندفع بها مخاوفنا، أما التفكير العقلاني فهو أشبه بقاطرة تنطلق من محطة معينة لتصل إلى هدف، التفكير مقدمات تنتهي بطريقة منظمة إلى نتائج يبدأ ب إذا الشرطية لينتهي إلى خلاصة، وينطبق هذا على تفكير الإنسان، كما ينطبق على الكمبيوتر الذي صنعه الإنسان على نمط تفكيره. التفكير إذاً يعني استخدام المنطق أو هو يكشف صفة تصف فعلاً أو نشاطاً أو سلوكاً يكشف عن بصيرة ذكية بالعلاقات البينية أو المتداخلة بين الأحداث في موقف معين، مثلاً إذا خرج شخصان من منزلهما في يوم تتلبد سماؤه بالغيوم، ووجد الشخص الاول في شكل السحب ما يذكره بوجه صديق قديم ومضى في سبيله يجتر ذكرياته. ووجد الشخص الثاني أن السماء تنذر بأمطار كثيفة وصواعق فعاد إلى منزله، أيهما نعتبره أكثر عقلانية؟ بطبيعة الحال ينطبق فعل العقلانية على الشخص الثاني الذي قرأ العلاقات بين الأحداث التي شاهدها واستطاع أن يتنبأ بما سوف يكون، أما الشخص الثاني فقد قرأ في المشهد علاقات ليست من طبيعة الموقف ذاته لذلك نصف تصرفه بأنه غيرعقلاني. من هنا فإن الفعل العقلاني هو مجموعة من الأحداث نظمت بطريقة تؤدي إلى غرض محدد، وكل عنصر في سلسلة الأحداث له موقع ودور وظيفي يؤثر في غيره، وهذا التنظيم لسلسلة الأفعال يكون في أحسن صورة حين يتلاحم ويتعاون ويضم الوسيلة الأكثر فعالية. لكن قمة العقلانية تلك نجدها في الإنسان الآلي (الروبوت) الذي يدير مصنعاً بأكمله في سلسلة من الأفعال بأكبر دقة وبأقل كلفة ممكنة وفي أقل وقت ممكن لتحقيق الهدف وهو المنتج النهائي، وفي الوقت ذاته نجد نموذج العقلانية في القنابل التي تبحث عن أهدافها وتصيبها بمنتهى الدقة وتحدث أكبر خسائر ممكنة بأقل كلفة ممكنة بالقياس إلى النتائج وهو الخراب، فهل تتساوى عقلانية الإنتاج مع عقلانية التدمير؟. يبدو أننا لا بد أن أضيف خاصية أخرى إلى العقلانية لتكون جديرة بوصفها بالفعل العاقل، فليس المهم فقط ترابط الأفعال بالرجوع إلى هدف محدد، وإنما من الضروري أن يكون الهدف نفسه عقلانياً، والهدف العقلاني هو الذي يحدد أكبر فائدة ممكنة لأكبر عدد من الناس أو لنقل انه الهدف الذي يبتغي (الخير العام) ذلك قمة الهدف العقلاني، أما الهدف العقلاني في حده الادنى فهو الهدف الذي وان كان شخصياً صرفاً فانه لا يترتب عليه ضرر للغير، وهذا ما يقف بالضبط ضد ما يوصف به الإنسان في الجانب السالب وهذا ما تهدف التربية في صورتها المثالية إلى تحقيقه. وتأسيساً على ذلك يمكن القول أن كل الناس عقلانيون على نحو ما، لكن ليس كل الناس عقلانيين بنفس الدرجة وبنفس النوع، عقلانية الطبيب الذي أفنى عمره ووقف ضد كل الصعاب ليتوصل على تخدير المرضى (البنج) لاجراء العمليات الجراحية تختلف تماماً عن عقلانية من يخترع أدوات التعذيب لانتزاع الاقوال من الخصوم.. كل منهما له هدف وابتكر وسائل ذكية لتحقيق الهدف لكن الفارق واضح بين أن يكون الهدف الرحمة بالبشر وأن يكون الهدف تعذيب البشر، كل منهما له اختياره لكن الاطار الخلقي هو الذي حدد نوع الاختيار، السلوك العقلاني إذاً هو السلوك الذي يمكن الدفاع عنه بالمنطق من ناحية، وبالقيم الخلقية من ناحية اخرى، أي انه سلوك يقوم على المعرفة من جانب وعلى الاخلاق من جانب آخر. من هنا يأتي دور المدرسة والتي يقع في أولويات مهامها المعرفة (أي انها تقوم بتقديم جوانب مما توصل اليه البشر على مر العصور من فروع العلوم المختلفة) لكن المشكلة الكبرى في المعرفة التي تقدمها المدرسة انها لا تنمي التفكير بالضرورة اضافة على أن المدرسة وهي مشغولة بتقديم المعرفة قد تتغافل كثيراً عن جانب الاخلاق. ونخلص من ذلك إلى أن لا صفة واحدة يمكن ان تميز الإنسان عن غيره من الكائنات - بما في ذلك العقلانية - وكل ما هو متاح للإنسان القدرة الأكبر على الاختيار، ومهمة التربية وغايتها تنمية القدرة على الاختيار الخلقي الذكي الذي يساوي الاختيار العقلاني. @ باحث وخبير تربوي- الرياض