نشب جدل اقتصادي جديد في أوساط البنوك والمؤسسات الاستثمارية العاملة في المنطقة حول جدوى ربط العملات الخليجية بالدولار الامريكي بعد التحولات المثيرة في الأيام القليلة الماضية التي شهدت مخاوف من ركود الاقتصاد الامريكي، كما تجدد الجدل حول أنسب السياسات لمكافحة التضخم وامتصاص السيولة الزائدة التي تعيشها دول التعاون الخليجي. ولكن ما قامت به البنوك المركزية الخليجية لتجنب الوقوع في مشكلة انهيار الأسواق المالية قد يوقعها في مشكلة أخرى لا تقل خطورة، تتمثل في التضخم، ذلك أن خفض الفائدة يقود إلى تدفق المزيد من السيولة في الأسواق، وهو أمر تحتاجه أمريكا ويحاول الخليج تجنبه. ولم تفعل البنوك المركزية الخليجية شيئا يذكر لإنهاء هذا الجدل سوى تكرار نفي عدم وجود أي خطط مستقبلية لديها لتغيير سياسات سعر الصرف أو فك الارتباط بالدولار،بالرغم أن البعض منها حاول جاهداً إقناع نظرائه الآخرين بضرورة التحرك سريعاً وبشكل منسق لاتخاذ موقف إيجابي حيال هذا الملف. ولأكثر من مرة، شددت دول مجلس التعاون الخليجي على عدم وجود نوايا لديها لإعادة تقييم عملاتها المربوطة بالدولار، وأنها ملتزمة بأسعار صرف عملاتها خلال مرحلة الاستعداد للوحدة النقدية، حيث أكدت مؤسسة النقد العربي السعودي نهاية الأسبوع الماضي أنها لا تعتزم تغيير سياسة سعر الصرف أو فك الارتباط بالدولار. وقال محمد الجاسر نائب محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي:" المملكة لا تعتزم تغيير سياسة الصرف الأجنبي وربط الريال بالدولار، لكنه أكد أنه إذا حدثت تغيرات في الصادرات والواردات واستمر في الوقت نفسه الانخفاض الشديد في قيمة الدولار...فهذا بالطبع تغير في الظروف" وهنا، قال يوسف نصر الرئيس التنفيذي لبنك اتش.اس.بيٍ.سي الشرق الاوسط، إن على دول الخليج العربية ألا تتخلى عن ربط عملاتها بالدولار وألا ترفع قيمة العملات لأن قيود العرض هي التي تحرك التضخم لا ارتفاع أسعار الواردات. وأكد نصر في تصريحات صحافية على هامش مؤتمر عن البنية التحتية انطلق في دبي أمس "أغلب الضغوط التضخمية لا ترجع إلى ربط العملة بالدولار بل بسبب قيود العرض... نقص المواد الخام والعمال،مضيفاً : ليست حجج التخلي عن ربط العملات مفحمة". وشدد نصر أن أي رفع لقيمة العملات قد يضعف ثقة المستثمرين في المنطقة، مكتفياً بالقول: :"إذا نظرت إلى الامارات وقطر فإن أفضل تناظر يتمثل في هونغ كونغ. فقد طوروا سلسلة من الأدوات على مر السنين للتعامل مع حقيقة فقد الاستقلال النقدي عند ربط العملة". إلا أن مؤسسة ميريل لينش شددت في تقرير وزعته أمس، إن معدلات التضخم في دول الخليج العربية قد ترتفع إلى مستويات جديدة هذا العام لأن الدول التي تربط عملاتها بالدولار من هذه الدول خفضت أسعار الفائدة اقتداء بالولاياتالمتحدة. وأضافت: التضخم في السعودية قد يبلغ ستة في المائة هذا العام بالمقارنة مع أربعة في المائة العام الماضي،موضحةً إن التضخم في الامارات صاحبه ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة العربية قد يزيد لأعلى مستوى منذ 20عاما ليصل إلى 12في المائة خلال 2008بالمقارنة مع عشرة في المائة العام الماضي، في حين إن التضخم في قطر التي تشهد ارتفاع الأسعار بأسرع وتيرة في المنطقة قد يصل إلى 14.5في المائة هذا العام من 14في المائة العام الماضي. وقالت ميريل لينش "من المرجح أن يظل التضخم في اتجاه صعودي في الآجل القصير. ومع اشتداد الطلب المحلي فإن ربط العملات بالدولار الامريكي المتراجع لا يعمل فقط على استيراد التضخم ويغذي السيولة المحلية فحسب بل الأهم من ذلك أنه يؤدي لاستيراد تيسير السياسة النقدية، مضيفةً :"في منطقة خيارات السياسة فيها مقيدة نتوقع أن يستخدم تدعيم العملة كأداة لسياسات مكافحة التضخم". غير أن بعض التحليلات الاقتصادية الأخرى شددت على أن دول الخليج مطالبة، في حال لم تقرر فك ارتباط عملاتها بالدولار الأمريكي، بالتفكير على الأقل في رفع أسعار الصرف. وفي هذا الإطار، قال ماريوس ماراسيفتس، المدير الإقليمي للأبحاث في الشرق الأوسط لدى ستاندرد تشارترد:"لسوء الحظ، ما يناسب الولاياتالمتحدة لا يناسب اقتصاد الخليج، وما يقلقني ليس المستويات الحالية للتضخم، بل المستويات المستقبلية المنتظر تسجيلها". وتابع: "خطوة رفع أسعار الصرف ستساعد على سحب السيولة من النظام المالي، وهذا سيعتبر رسالة واضحة من دول الخليج إلى جميع شركائها بأنها على استعداد لمواجهة الضغوط التضخمية". ولم يرغب اقتصاديون سعوديون الخوض في أحاديث جديدة حول ملف فك ربط العملات الخليجية بالدولار ،حيث قال أحدهم في اتصال هاتفي مع (الرياض) : لقد مللت من الحديث عن هذا الموضوع .. تحدثنا بما فيه الكفاية نريد أفعالاً وليس أقوالاً". وزاد هذا الخبير الذي فضل عدم الإفصاح عن اسمه: "مؤسسة النقد العربي السعودي يجب أن تحشد جهودها واتخاذ قرارات تمنع الضرر عن الاقتصاد المرتبط بالدولار المتهاوي .. المعضلة الرئيسية تكمن في كيفية تحقيق التوازن الحرج بين النمو الاقتصادي ومكافحة التضخم". واكتفى بالقول :"إذا استمر انزلاق الدولار الأمريكي نحو مستويات دنيا جديدة،دون تحرك خليجي، ستزداد حدة الجدل حول مدى فائدة استمرار دول الخليج في ربط عملاتها بالدولار الذي يتوقع أن يستمر انخفاضه إلى أن تتمكن الولاياتالمتحدة من خفض عجز ميزان المدفوعات وعجز الميزانية". وينتظر أن يشكل ملف التضخم خلال العام الحالي التحدي الأكبر للسياسات النقدية في دول مجلس التعاون الخليجي، ما يعني زيادة حدة الجدل حول فحوى القرارات المرتقبة للبنوك المركزية الخليجية في حال واصل الدولار انخفاضه إلى ما دون المستويات الحالية.