الخطر في هذا العصر يتسلّل في الظلام، يزحف بخفاء كأفعى، ويتوارى كعقرب سام. يتنكّر في هيئة رأي هادئ أو خبرٍ عابر، ويُبثّ من حيث نظن الأمان: من الشاشة، من المنصة، من معلومة تبدو موثوقة. يتخفّى خلف أقنعة، ويطلّ في هيئة تحليل أو تقرير، يُساق عبر قنوات خفية: من فضائيات مشبوهة ومنصات تواصل تتزيّن بالمهنية، بينما تمرّر رسائل مسمومة، وتستضيف شخصيات مهزوزة، وتمنحها ألقابًا رنّانة مثل «خبير في الدراسات الاستراتيجية»، وهم في حقيقتهم أدوات للطعن المنهجي، والتشكيك المنظّم، وزرع الأوهام التي تُفرغ الإنجاز من أثره، وتُقوّض الثقة بتهييج خادع. وفي فضاء التواصل، تتزاحم الأصوات ويتكاثر التدليس، وتتصاعد حملات تبدأ ب(هاشتاقٍ) عابر، لكنها تُدار أحياناً بخبثٍ مدروس، يستهدف تشويش الوعي، وتحريك الانفعالات، وجرّ الرأي إلى متاهات الفتنة. في هذا المشهد، لا يكون المواطن مجرّد متلقٍّ، بل طرفاً فاعلاً في تشكيل الوعي الرقمي. فكل تفاعل غير مدروس، وكل تعليق عابر على معلومة زائفة، قد يفتح ثغرة للتضليل، ويُلبس الباطل ثوب القبول، ويجعل من صاحبه – من حيث لا يعلم – ناقلاً لأجندة خفية. ولهذا، فإن التحقّق من المعلومة، والتأمّل في سياقها، والتريّث قبل إعادة نشرها، ليست رفاهية معرفية، بل فطنة ومسؤولية وطنية. ولا يقل خطر المحتوى المسموم عن خطر المعلومة المضلّلة، حين يُروّج له عبر حسابات مموّلة أو أعمال تتخفّى خلف البهرجة والتزييف المُفسد. ينال من القيم بألفاظ ومشاهد مبتذلة، ويشوّه الهوية والصورة الذهنية، ويُصوّر النبل وكأنه تخلّف أو عبء. وهنا يتجلّى الفارق بين نقدٍ مخلص يُقدّم التقويم، وخطابٍ يُمعن في تشويه الحسن وتقبيحه، متدثّر بأقنعة التزييف. في وجه هذا كله، يتقدّم الوعي كحائط صدٍّ أول. إما أن يكون حاضراً فيحمي، أو غائباً فيُغري المتسلّل بالجرأة. لكنه لا يكفي أن يكون وعياً فردياً؛ لا يشتدّ أثره إلا حين يتحوّل إلى ثقافة جماعية، تقاوم وتبني، تُدرك أن صمتها ليس حياداً، بل مبادرة واعية في الاحتراس والإبلاغ. ومع ذلك، لا يُلقى العبء كله على الأفراد؛ فالوعي لا ينمو من فراغ، بل يحتاج إلى رعاية وسقاء. بيئة حاضنة تتكامل فيها الجهود: من المناهج التعليمية التي تغرس القيم وتعزز الانتماء، وتُرسّخ التفكير النقدي لا بوصفه مهارة ثانوية، بل كأداة لتحليل الواقع وتمييز الحقيقة من الباطل؛ إلى الإعلام الوطني الذي يكشف ما يُمرَّر من خلف الستار، ويقدّم المعرفة الموثوقة في زمن الضجيج والفوضى. وتأتي الأسرة بوصفها النواة الأولى لبناء الضمير وتعزيز المسؤولية، وترسيخ قيمة الوطن في وجدان الأبناء منذ اللحظة الأولى للوعي. أما المنابر الدينية والثقافية، والبرامج التوعوية، فهي ركيزة توعوية وواجهة فكرية، تغرس الإدراك، وتسدّ الفراغات التي تتسلّل منها رسائل التشويش، وتُثبّت الوعي بوصفه ممارسة لا تغيب. وفي خضم هذا الواقع المربك، لا تنجو إلا الأمم التي تبني وعيها كما تبني جيوشها، وتحصّن فكرها كما تصون حدودها. وهنا يبرز النموذج السعودي، الذي يمضي بثبات وثقة نحو مستقبل مشرق وواعد، تتحقق فيه نهضة شاملة تعيد تشكيل الإنسان والمكان والاقتصاد، وتدفع بالتنمية في مختلف قطاعاتها، وتُرسّخ حضوراً فاعلاً على الساحة العالمية؛ برؤية لا تقتصر على المشاريع العملاقة والتطوير الممنهج، بل تمتد لتعزيز الأمن والاستقرار والرخاء في وجدان المواطن، واستحضار قيمة الوعي كركيزة أولى، لا لحماية المنجز فقط، بل لصناعة الغد أيضاً. في المحصلة، الوعي ليس ترفاً ولا رفاهية فكرية. هو الحارس الذي يُفشل الخديعة قبل أن تُدس، ويُغلق الثغرة قبل أن تُرصد. ينبع من التفاصيل اليومية: من البيت إلى الشاشة، ومن الشارع إلى الكلمة. فالغفلة تفتح الباب، والنقد الواعي هو من يُنبه، والوعي هو من يصون، والنزاهة هي ضميره، والتكامل هو درعه، يحفظ تماسك الجبهة الداخلية، ويُغلق المداخل قبل أن تنفذ منها يدُ العبث.